١١ يومًا مرت على حفل افتتاح المتحف المصرى الكبير، وللمرة الثالثة بعد احتفالية موكب المومياوات وافتتاح طريق الكباش، أثبتت مصر قدرتها على تحويل حدث ثقافى إلى فعالية شعبية استثنائية، تحظى بمتابعة عامة من عموم الشعب المصرى، كما تحظى بمتابعة دولية واسعة.
وإذا أضفنا لتلك الفعاليات ما حدث من حضور مليونى فى مولد السيد البدوى منذ أسابيع قليلة لاتضحت مدى قدرة مصر- فضلًا عن حاجتها- إلى تحويل مثل تلك الأحداث الثقافية إلى فعاليات حقيقية، محلية ودولية، لا تقل فى إثارتها وتميزها ونتائجها عن المهرجانات الشعبية ومهرجانات الشارع التى أصبحت بمثابة حدث سياحى عالمى فى بعض دول العالم، مثل مهرجان ريو دى جانيرو الموسيقى، أو المهرجانات المحلية فى إسبانيا وفرنسا أو غيرهما، رغم أن مثل هذه الأحداث قد تكون خير معبر عن الثقافة المصرية الحقيقية، بثرائها وتنوعها وتفردها.
«الأعمدة السبعة» يمكن تحويلها إلى مناسبه سنوية على غرار «موكب المومياوات»
ذات يوم، كتب المفكر المصرى ميلاد حنا عن «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية»، الفرعونى واليونانى الرومانى والمتوسطى والقبطى والعربى والإسلامى والإفريقى، وتحويل بعض هذه الأعمدة أو كلها إلى مهرجانات وفعاليات ثقافية شعبية سنوية هو أمر ممكن- بل ومرغوب- سواء على المستوى المحلى أو العالمى، كما أبرزته فعاليات المومياوات والكباش والمتحف الكبير.
ولعلى هنا أقترح مبادرة لإطلاق ٧ مهرجانات شعبية سنوية، مستوحاة من تاريخ مصر الغنى، لتمثل سردًا ثقافيًا وعرضًا فنيًا وحدثًا سياحيًا مستمرًا، ضمن فعاليات محلية دولية، تؤسس لحقبة جديدة تليق بمصر التى تأخرت عن اللحاق بركب مهرجانات الشارع، رغم ما لها من سوابق تاريخية فى عصور حضارية سابقة فى إقامة مثل تلك الفعاليات، التى لم تكن غائبة عنها فى عصور ازدهارها، والتى ظهرت فى فعاليات عيد «حب ست» الثلاثينى لجلوس ملوكها فى عصورها القديمة، أو فى مواكب «ركوب الخليفة»، أو فى خروج كسوة الكعبة طوال العصر الإسلامى.
والناظر للتاريخ يرى بوضوح أن مصر بإمكانها تقديم احتفال سنوى بعصر المملكة القديمة «عصر بناة الأهرامات» فى منطقة أهرامات الجيزة، التى أصبحت مؤهلة لاستضافة هذا الحدث المحلى والعالمى، بعدما أثبتت هذا بالفعل فى احتفالية المتحف الكبير، كما أنها قادرة أيضًا على تنظيم فعالية مماثلة تختص بعصر الدولة الحديثة فى الأقصر، كما حدث فى احتفالية طريق الكباش، فضلًا عن إمكانية تقديم فعالية ثالثة تقام فى محافظات وسط وشمال الصعيد، احتفاء بعصر المملكة الوسطى، بعد إعادة تأهيل منطقة مناسبة فى اللشت واللاهون والفيوم، التى تشهد بقايا أهرامات تلك الحقبة التاريخية الذهبية.
الأمر نفسه يمكن قوله عن فترة البطالمة التى يمكن تنظيم مهرجان شارع لها فى الإسكندرية، يحمل طابعًا مختلفًا تمامًا عن سابقيه، كما أنه لا خلاف حول قدرة مصر على تنظيم حدث هائل فى مصر الفاطمية المملوكية، يحمل طابعًا تاريخيًا إسلاميًا، هذا بالطبع إلى جانب تنظيم موكب وفعالية سنوية تحتفى بالمرحلة القبطية، ممثلة فى حدث «رحلة العائلة المقدسة».
تنظيم مسابقات رياضية خاصة مستوحاة من تاريخ مصر البطلمى
المستهدف من إقامة المهرجانات السبعة ليس تنظيم حفل مغلق، وإنما تنظيم سيناريو شامل لمهرجان شارع يضم فعاليات متعددة ومتفردة تتناسب مع روح كل حقبة وأحداثها، مع الاستفادة من ذلك سياحيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
وعلى سبيل المثال، فإن الاحتفال الخاص بالعصر البطلمى، يمكن تنظيمه سنويًا بالإسكندرية تحت اسم «مهرجان كليوباترا»، ليتضمن فعاليات مهرجان شارع، وعروضًا جاذبة، مصريًا وعالميًا، وربما يتضمن تنظيم موكب ملكى يشبه موكبها التاريخى، فضلًا عن تزيين بعض شوارع المدينة بما يناسب روح عصرها، مع ربط المهرجان بالترويج لسلع ومنتجات ارتبطت بها، مثل أزياء كليوباترا، وعطورها وأدوات زينتها وحليها، وكل أدواتها المصنوعة بنفس الطرق الأصلية القديمة، بالإضافة إلى أنواع من المأكولات والمشروبات الخاصة بحقبتها، لخلق «ترند خاص» بهذا الاحتفال على وجه الخصوص، ليصبح حدثًا متفردًا فى كل تفاصيله.
وسيكون من المناسب هنا تنظيم مسابقات رياضية خاصة مستوحاة من تاريخ مصر البطلمى، وتنظيم مهرجانات فنية سينمائية أو مسرحية تعرض أفلامًا ومسرحيات وأغنيات عن كليوباترا أو الإسكندر أو الأسرة البطلمية بشكل عام، فضلًا عن مسابقات موسيقية وغنائية تتخصص فى موسيقى وألحان مستوحاة من تلك الحقبة، مع مسابقات فى الرسم والنحت على طرازها، هذا بالطبع إلى جانب إقامة عروض أزياء، بل ومسابقات ملوك وملكات جمال، يجرى فيها اختيار الأشبه بالملكة الأسطورية، وأهم رموز ذلك الزمن، وقد يمتد الاحتفال إلى تنظيم فعالية خاصة بالإسكندر الأكبر فى حضرة آمون فى واحة سيوة، وفعاليات صداقة مع الدول المعنية بتلك المرحلة التاريخية، مثل قبرص واليونان وإيطاليا. ما قيل عن «مهرجان» أو «موكب كليوباترا» يمكن أن يقال أيضًا عن «مهرجان حتشبسوت» فى الأقصر، الذى يمكن أن نتخيل فيه عرضًا سنويًا لموكب تمثيلى على غرار احتفالية طريق الكباش، يسير على ألحان مستوحاة من عصر الدولة الحديثة، ويرتدى فيه العارضون ملابس تاريخية ويقدمون استعراضات مسرحية معبرة، مع الترويج للحضور بملابس مستوحاة مما ارتداه ملوك وملكات العصر ذاته، بالإضافة إلى بيع حلى وأدوات زينة وعطور ومنتجات تحمل نفس طابع الملك أو الملكة، فضلًا عن بيع أنواع معينة من الطعام والشراب المرتبطة بهما، بالإضافة إلى تنظيم عروض أزياء عالمية مستوحاة من الطرز الفنية للملابس فى مصر القديمة، ومسابقات لاختيار أشبه الناس بملكات مصر الأسطوريات، مثل حتشبسوت ونفرتيتى وغيرهما، يتم تنظيمها داخل المتحف المفتوح المعروف باسم مدينة الأقصر.
المكاسب مضمونة النجاح.. وتسهم فى ترسيخ الصورة الذهنية عن ماضى مصر وحاضرها
تنظيم مثل هذه المهرجانات والاحتفالات هو أمر مضمون النجاح، فمن لا يرغب فى متابعة فعاليات غير مسبوقة، مثل المشاركة فى مسابقة اختيار شبيهة كليوباترا أو نفرتيتى، أو سباق العجلات الحربية لأحمس فى طيبة، ومن لا يحب متابعة ماراثون الأهرامات، المستوحى من أول ماراثون فى التاريخ، ومن لا يحب رؤية عرض سنوى حول «رحلة العائلة المقدسة»، مصحوبًا باستعراضات وألحان تحتفى بمولد المسيح عليه السلام وبشارته للعالمين.
وأيضًا، من لا يحب رؤية «موكب الخليفة والسلطان»، وهو يخترق شوارع القاهرة التاريخية فى مناطق أعيد تأهيلها، والذى قد يتضمن عروضًا عن انتصارات مصر على الصليبيين والمغول، وتجسيدًا لاتفاقية السلام بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، ومن الذى لن يهتم بمسابقة يتم فيها اختيار أشبه الناس بصلاح الدين الأيوبى أو قطز أو بيبرس، مع تناول «أم على»، التى اخترعتها «أم على المنصور»، زوجة أيبك، بعد انتقامها من شجرة الدر.
إن تنظيم مهرجانات ومواكب وعروض شارع سنوية، مستوحاة من تاريخ مصر القديمة والبطلمية والإسلامية، بعصورها الفاطمية والأيوبية والمملوكية، فضلًا عن تنظيم فعالية دينية مسيحية حول «رحلة العائلة المقدسة»، وأخرى إسلامية صوفية، تحتفى بجميع الأولياء فى وقت واحد، وتكون ميدانًا لتنافس حلقات الذكر والإنشاد الدينى، هو أمر يمكن أن يحظى بمتابعة عالمية، ويسهم فى تنشيط السياحة الداخلية والخارجية، فضلًا عن صناعة حالة فنية وثقافية وسياحية متفردة، لا يمكن منافستها، سواء فى طابعها المحلى أو تأثيرها العالمى، لكونها مهرجانات أصيلة فى طابعها وتكوينها وأحداثها، وغير مفتعلة أو مقحمة على السياق المصرى.
وأيضًا، فإن تنظيم المهرجانات السبعة فى عدة محافظات مرتبطة بالأحداث، مثل: الجيزة والأقصر والفيوم ومصر الوسطى والإسكندرية والقاهرة، هو أمر ممكن، فضلًا عن التنظيم فى أكثر من محافظة لرحلة العائلة المقدسة ومواكب الأولياء من العصر الإسلامى.
توزيع هذه الفعاليات التى تنظم على مدار يوم واحد أو عدة أيام، يمكنه أن يخلق حدثًا ممتدًا طوال ٧ أشهر من كل عام، وهو أمر ممكن تنظيميًا وأمنيًا، لتتوزع الفعاليات ضمن المواسم السياحية، ليكون موكب كليوباترا فى موسم السياحة الغربى، وموكب الخليفة فى موسم السياحة الخاص بالعرب أو القادمين من آسيا الوسطى، وموكب العائلة المقدسة فى رأس السنة، وموكب مصر القديمة فى شم النسيم، لتتكامل تلك المهرجانات مع المهرجانات الحديثة، مثل مهرجان العلمين الجديدة، فى سياق ممتد.
وسيكون لكل ذلك تأثيره الإيجابى فنيًا وثقافيًا وسياحيًا بالطبع، ويمكن الوصول إليه تدريجيًا خلال السنوات المقبلة، مع التنويع وزيادة الفقرات وإسناد التنظيم لجهات مختلفة، ما يخلق منافسة تثرى من المشهد وتزيد من الإقبال عليه، خاصة أن ذلك سيسهم بالطبع فى صناعة صورة ذهنية استثنائية ومتميزة عن ماضى مصر وحاضرها، مع زيادة الوعى التاريخى والسياحى بشكل عام، وتحويل مصر إلى «ترند» سنوى عالمى، يلاقى فيه كل ما يحب.
مبادرة المهرجانات السبعة المقترحة من شأنها أن تخلق حالة حراك سياحى وثقافى دائم، تخرج بمصر عن دائرة المنافسة الإقليمية فى مضمار العروض الفنية والسياحية والثقافية، بعد حسم تفردها وتميزها بالضربة القاضية، كما أن هذه المهرجانات تخدم السردية الوطنية المصرية بشكل عام، وتنشط النشر العلمى لأبحاث وكتابات تعيد تسليط الضوء على تاريخ مصر، بكل مراحلها.










0 تعليق