صدور الطبعة الثانية من "العزلة ليست هي الوحدة" لأحمد رجب شلتوت

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 أصدرت "وكالة الصحافة العربية – ناشرون"  طبعة ثانية من كتاب "العزلة ليست هي الوحدة" للكاتب والناقد أحمد رجب شلتوت، الكتاب الذي صدرت طبعته الأول قبل ثلاث سنوات يحمل عنوانًا دالًا بقدر ما هو مربك في ظاهره، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والعالم، بين الصمت والكتابة، بين الانكفاء على الذات والانفتاح على الآخرين، ليقول بلغة هادئة وواعية إن العزلة ليست بالضرورة حالة من الانفصال، بل قد تكون شكلًا آخر للحضور والتأمل والإنصات. 

 يذكر شلتوت في مقدمته أن الكتاب يضم قراءات لكتب عاش معها أثناء ذروة جائحة "كورونا"، حين أُجبر العالم كله على العزلة القسرية، لكنه حوّل التجربة من حدث عابر إلى تأمل فلسفي وإنساني في معنى العزلة.

فبينما رأى كثيرون في الحجر سجنًا كبيرًا، رأى الكاتب فيه مساحة للتفكير ومراجعة الذات وإعادة اكتشاف الكتب والكتابة والذات.

العزلة وحالة الامتلاء بالذات والآخرين 

 ويقول في مطلع الكتاب: "العزلة ليست هي الوحدة، فالوحدة شعور مؤلم، أما العزلة فهي حالة من الامتلاء بالذات والآخرين معًا" هذا التمييز هو مفتاح القراءة للكتاب كله؛ إذ يجعل من العزلة تجربة معرفية وليست انغلاقًا، ومن الوحدة جرحًا نفسيًا ناتجًا عن فقدان التواصل الإنساني، ولأن الكاتب عاش منذ طفولته ظروفًا صحية جعلت العزلة جزءًا من تكوينه، فقد تحولت تلك الحالة لديه إلى مختبر للتأمل والقراءة، لا إلى قيد، فالعزلة التي فرضها الجسد تحوّلت إلى مساحة حرية للروح والخيال. 

 يضم الكتاب مجموعة من القراءات النقدية والتأملات التي أنجزها المؤلف خلال فترات العزلة، وجمعها في صيغة حوار بين الذات والكتب والعالم، ومن اللافت أن تنوع الموضوعات من الجاحظ وازدواج اللغة والهوية، إلى جلال أمين وجورج أورويل، ودوريس ليسنج، وبورخيس، وديستويفسكي، وهيمنجواي، ولوكاتش، وكافكا، ليس  يهدف إلى العرض الأكاديمي، بل إلى البحث عن خيط خفي يوصل بين هؤلاء جميعًا: كيف واجه كل كاتب وحدته الخاصة؟ وكيف تحولت العزلة عندهم إلى فعل إبداع؟

من سيوران إلى كيليطو..ازدواج اللغة  بوصفه انشطارا للهوية 

 في فصل "الكاتب يتيمًا"، يقرأ شلتوت ازدواج اللغة بوصفه انشطارًا في الهوية، مستعينًا بأصوات مثل سيوران وعبدالفتاح كيليطو وأيمي تان، ليرى أن من يكتب بلسانين يعيش "عزلة لغوية" لا تقل عن عزلة الجسد. وفي فصل آخر يستعيد المفكر جلال أمين من خلال كتابه «تجديد جورج أورويل»، ليقارن بين قهر التكنولوجيا الحديثة وبين عزلتنا الرقمية الجديدة، حيث صار الإنسان محاصرًا بشاشاته لا بسجونه.

 من نصوص الكتاب إلى قراءة يومياتهم ورسائلهم  

 وما يميز كتاب «العزلة ليست هي الوحدة» أنه لا يكتفي بقراءة الأدباء في نصوصهم، بل يغوص في في يومياتهم ورسائلهم واعترافاتهم،  ففي فصل «سجون نختار أن نحيا فيها» يتأمل الكاتب محاضرات دوريس ليسنج عن خضوع الفرد لسلطة الجماعة وغسيل الأدمغة، ويرى فيها نبوءة مبكرة لعصر السوشيال ميديا الذي يُغري الأفراد بالتشابه والامتثال.

وفي فصل «بورخيس الأعمى الذي فتح نوافذ العالم» يرسم بورتريه لشاعر أضاء العتمة بالخيال، محولًا فقدان البصر إلى بصيرة نافذة، في حين يقدّم في فصل «ما تحكيه رسائل ديستويفسكي» قراءة حية للرسائل كجنس أدبي يكشف الإنسان الكامن داخل المبدع العبقري، الإنسان الذي يخاف الفقر والخذلان ويؤمن بالكتابة خلاصًا من السقوط.

وتصل الرحلة إلى فصل مؤثر عن مراسلات ألبير كامو وماريا كازاريس، حيث تتحول الرسائل إلى مرآة لعشق مؤجل بين الحياة والموت، ليذكّرنا شلتوت بأن الحب أيضًا شكل من أشكال العزلة الجميلة بين اثنين ضد العالم.

 ومن الناحية الشكلية، يجمع الكتاب بين المقالة النقدية والتأمل الشخصي، ويستند إلى ثقافة موسوعية تربط بين الفلسفة والأدب والتاريخ، لكنها تنحاز في النهاية إلى الإنسان الفرد، ضد الجموع وضد كل أشكال الاستلاب، 

 ولعلّ أهمية هذه الطبعة الثانية تتمثل في أن الكتاب، رغم انطلاقه من تجربة «كورونا»، لكنه استطاع أن يتجاوز سياق الجائحة ليصبح شهادة دائمة عن العزلة كقيمة وجودية وفكرية، فالكاتب لا يقدّم دراسات جامدة، بل يمارس نوعًا من "الكتابة في العزلة" التي تستعيد بريق القراءة كفعل مقاومة.

 في هذا الكتاب يتأكد أن "العزلة" في مشروع أحمد رجب شلتوت ليست موضوعًا عابرًا بل رؤية فكرية وجمالية، ترى في الأدب مساحة للتفكير في العالم والإنسان، فالكتاب يعيدنا إلى جوهر الكتابة نفسها: أن تكتب لأنك لا تستطيع أن تصمت، وأن تكون وحيدًا كي تصغي إلى الآخرين في داخلك.   

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق