في شرم الشيخ مدينة السلام وتحديدا خليج نعمة وفي أحد أركانها المطلة على البحر الأحمر، يقبع فندق عتيق يحمل اسم «البيت الأبيض»، ليس لمجرد التباهي أو التشابه المصطنع، بل لأنه كان شاهدًا صامتًا على أولى خطوات سلامٍ حاول أن يزيل نار الحرب من شمس مصر.
أول الغيث
يُروى أن الأيام التي نُظمت فيها جلسات بين الرئيس الراحل محمد أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن وقتها كانت محمّلة بقلقٍ كبيرٍ على كلا الجانبين. فالفندق لم يكن في الأصل معدًّا لمثل هذه اللحظات التاريخية؛ لم يكن هناك عدد كافٍ من الكراسي والطاولات للسائقين والمساعدين الذين حضروا مبكرًا، فاضطر المنظمون أن يُخرجوا أثاثًا من مطعم فندق قريب ليلائم الحدث، قبل دقائق فقط من وصول الوفود. وردت تلك القصة في شهادات عدد من الحاضرين آنذاك.
وفيما كانت الصور الرسمية تُخلَّد لبساطة المكان، كان في الكواليس توترٌ شديد من قبل الجهات الأمنية بين مصر وإسرائيل، الذين تفاوضوا ليس من أجل صورٍ إعلامية فقط، بل من أجل أرضٍ وكرامةٍ وأمان.
مبادرة إنسانية من العمال
“البيت الأبيض” لم يكن مجرد مكان للتفاوض، بل مجتمع صغير؛ عاملات نظافة وطباخون وحراس ليل، كانوا من أبناء جنوب سيناء ومناطق مجاورة. خلال سنوات تالية، وبعد انتهاء الجلسات السياسية، ظل بعض هؤلاء العمال يُقدّمون خدمات بشكل شبه تطوعي أثناء رؤى فتح الفندق وصيانته، حتى وإن لم تُسجَّل أسماءهم في الصحف الرسمية. يقال إن أحد الحراس كان يُضيء بنفسه الشموع القديمة وصور القادة على الجدران، ليلًا، حتى يبقى الضوء خافتًا يُذكر بروح اللقاء.
تم إعادة تأهيل الفندق، حرص على إشراك بعض أولئك العمال في جولة الافتتاح، تقديرًا لما بذلوه من جهد، رغم أن هذا التكريم لم يكن محورًا إعلاميًّا كبيرًا، إلا أنه لمس قلوب من عرفوه.
الأشجار الراحلة والأمطار التي لا تنسى
في مساء إحدى أيام الشتاء عقب جلسة السلام، سقطت أمطار خفيفة فجأة على شرم الشيخ – شيء غير اعتيادي هناك في تلك. ظلّت النباتات المحيطة بالفندق تبتل، والزجاجات القديمة على الشرفات تتراقص على وقع القطرات. تَذكَّر بعض الموظفين أن الرائحة الترابية بعد المطر كانت أقوى من صوت المحادثات السياسية، وكأن الطبيعة تشارك بصلواتٍ أنيقة في تلك اللحظات التاريخية.
تجديد “البيت الأبيض” رسالة سلام
عندما أعلن محافظ جنوب سيناء وقتها إعادة افتتاح الفندق بعد عشرات السنين، لم يكن الهدف مجرد سياحة أو إنعاش اقتصادي، بل رسالة وطنية: أن التاريخ لا يُباع، وأن السلام يُعاش عبر الرموز والجغرافيا. لذا، في التجديد: غرف فندقية جديدة، مركز غوص، نادي صحي، مطاعم، وصالة ألعاب رياضية – لكن بينهم ركنٌ للصور القديمة، يجمع الصور الباهتة للغرفة التي اجتمع فيها السادات وبيغن، والطاولة الخشبية التي ربما هُزّت بدويّات خطوات الوفود، وصورة الحارس الذي كان واقفًا في البوابة ينتظرهم قبل الظهر.
في هذا الركن، ترتسم ملامح الأزمنة: حوارٌ بِغياب الكلام أحيانًا، وترقّبُ صوتٍ واحدٍ: “هل سيُكتب يومًا أن هذا المساء كان بداية سلام دائم؟”
0 تعليق