الأربعاء 25/يونيو/2025 - 08:42 ص 6/25/2025 8:42:30 AM
في اللحظة التي هدأت فيها رهانات الصواريخ، ظهر واضحًا أن وجه الصراع تغيّر من ميداني إلى لحظة تفاوضية، نرى فيها الملف النووي الإيراني يعاني من سقوط أبرز المنشآت وخائف من أوراق السلام المحتملة.
الضربات الإسرائيلية والأمريكية التي كانت موجهة نحو قلب البرنامج النووي لطهران خلّفت فيضًا من الخسائر البشرية والمادية، لتصبح جاهزة للتفاوض الجديد، في 13 يونيو شنت إسرائيل سلسلة من الغارات على أكثر من 100 هدف إيراني، أصابت منشآت تخصيب في نطنز وفوردو وأهدافًا عسكرية في أصفهان، بينما تدخلت واشنطن في 21 يونيو بضربات مركّزة دمرت منشآت إيرانية تحت الأرض، بما في ذلك ما وصفته وسائل إعلام أمريكية بأنه "مراكز القيادة والتنسيق النووي"، وقد أُعلن رسميًا أن مقتل عدد من العلماء والفنيين النوويين اقترب عددهم من عشرين عالما، وأصيب أكثر من ألف، فضلًا عن دمار واسع في منشآت صناعية ومدنية محيطة، هذه الخسائر دفعت طهران إلى مراجعة موقعها من المعادلة، لكن من دون التخلّي عن أدوات الردع الرمزية.
في هذا السياق، أبدت إيران مرونة محسوبة، فطرحت في مفاوضات غير معلنة في مسقط وجنيف أكثر من خطة تقضي بتعليق تخصيب اليورانيوم عند نسبة لا تتجاوز 5% لمدة عام، مع السماح بتفتيش دولي غير مشروط، مقابل رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية وتحرير جزء من الأموال المجمدة، هذا الطرح توازى مع مقترح أمريكي قائم على ما سُمِّي بـ"صيغة ويتكوف"، والذي يمنح طهران الحق في تخصيب مدني تحت رقابة مشددة، شرط وقف أي تطوير تكنولوجي يسمح بالاقتراب من العتبة النووية، وهو ما يطرح معادلة جديدة، تقرّ بحق التخصيب شكليًا، لكنها تفرغه من مضمونه السياسي والعسكري.
اللافت أن الطرفين خرجا، كلٌ بطريقته، ليعلن أنه انتصر، إيران رأت في صمود منشآتها الحيوية وبقاء برنامجها قيد التشغيل – ولو بحدود – دليلًا على فشل محاولات الإخضاع الكامل، والولايات المتحدة رأت أن الضربات الجوية أضعفت بشدة البنية التحتية النووية، وأجبرت طهران على العودة إلى الطاولة بشروط أكثر واقعية، لكن بعيدًا عن ضجيج الشعارات، لا يبدو أن هناك منتصرًا واضحًا، فطهران نزفت علميًا وبشريًا، وتعرضت لضربة قاسية في صميم مشروعها الاستراتيجي، وإن حافظت على بعض أوراقها، وواشنطن بدت وكأنها تجنّبت الانزلاق في حرب مفتوحة، لكنها لم تحقق نزع السلاح الذي طالما دعت إليه، واكتفت بتجميد مرحلي للتهديد.
داخل هذا المشهد، برز موقف مجلس التعاون الخليجي كفاعل إقليمي حذر، لكنه مؤثر، فقد أدانت العواصم الخليجية علنًا التصعيد، وكررت دعوتها لحل تفاوضي شامل يعيد الاستقرار، في وقت تحركت فيه الدبلوماسية العمانية مجددًا لتجسير الفجوة بين طهران والغرب، وظهر موقف خليجي متقدم خلف الكواليس، يدعم حلًا يضمن وقف التصعيد مقابل ضمانات بعدم تطوير إيران لأي قدرة تسليحية، كما طُرح مقترح بإنشاء شراكة تخصيب إقليمية تشارك فيها الدول الخليجية، لتكون بديلًا مقبولًا عن البرنامج الإيراني المنفرد، وهو ما استقبلته طهران بتحفظ حذر لكنه غير رافض.
في موازاة ذلك، كانت قمة حلف الناتو المنعقدة في لاهاي تطلق رسائل واضحة، فقد أكد الأمين العام للحلف أن تهديد إيران النووي لم يعد شأنًا شرق أوسطيًا بل بات يمسّ الأمن الأوروبي والأطلسي، معلنًا عن دعم غير محدود لأي دولة خليجية تتعرض للضغط من طهران، كما طُرحت مقترحات بزيادة التواجد البحري في مضيق هرمز، وتفعيل الردع السيبراني ضد أي مشروع نووي يُعاد تفعيله سرًا، هذا التوجه يعزز القناعة داخل إيران بأن الضغط الغربي لم يعد محصورًا في أمريكا وإسرائيل، بل دخل مرحلة الاصطفاف الإقليمي والدولي، وهو ما يقيّد هامش المناورة إلى حد بعيد.
إذا كانت الأيام السابقة شاهدة على نيران مدمرة أُطلقت لإخماد مشروع نووي متقدم، فإن ما يليها سيكون اختبارًا لقدرة الأطراف على إنتاج تسوية تُرضي الغالبية ولا تهدد أحدًا. أمام إيران فرصة للمناورة الذكية، عبر إبقاء مشروعها في الإطار المدني الخاضع للرقابة، مقابل استعادة أنفاسها اقتصاديًا، وكسر عزلتها التي اشتدت بعد الضربات الأخيرة، لكن هذه الفرصة لا تنتظر طويلًا، فالخليج بدأ يتحرك لحجز مكان له في معادلة الأمن النووي، والناتو لمّح إلى أن صبره ليس بلا سقف، أما إسرائيل، فقد أوصلت رسالتها بوضوح وهي أن المشروع لن يُسمح له بالوصول إلى العتبة، مهما كانت التكاليف.
وهكذا، تنقلب صفحة النار إلى مفاوضات، لكن رماد الصواريخ لا يزال ساخنًا، والندوب التي خلّفتها الضربات الأخيرة في الجسد الإيراني قد تكون أعمق من أن تُنسى بسرعة، وفي غياب اتفاق دائم، تبقى كل خطوة على حافة هاوية، وكل تهدئة مشروطة بزمن قابل للاشتعال.
في هذا السياق، لا تبدو إيران مُقبلة على التراجع، ولا تبدو قادرة على التقدم أكثر، إنها تمشي على حافة حادة بين الخضوع والانفجار، تلعب بالنار لكنها لا تريد أن تحترق، أما الخليج فقد تحوّل من ساحة صراع إلى منصة ترجيح، وأما الناتو، فلم يعد فقط حلفًا عابرًا للأطلسي، بل لاعبًا مباشرًا في معادلة الردع المقبلة.