موسم المونة اللبنانية.. حنين للتراث مع مرارة الغلاء

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
مع حلول شهر تشرين، تعود إلى البيوت اللبنانية رائحة الصيف المخزّن في المرطبانات، وتفوح في القرى أنفاس الفلفل الأحمر والثوم ودبس العنب. في هذا الشهر بالذات، تنبعث من باحات المنازل مشاهد لا تزال تقاوم النسيان: نساء يجلسن حول الأواني النحاسية الكبيرة، يقطعن الباذنجان ويحشينه بالجوز والفليفلة، بينما تلمع في الشمس صفوف المربيات والمكدوسات والمخللات.

Advertisement


إنه موسم "المونة"، أحد أقدم وأجمل التقاليد الريفية في لبنان، حيث تتلاقى مهارة الأيدي مع عبق الأرض وكرم الطبيعة.

المونة: ذاكرة البيت اللبناني

تُعتبر المونة أكثر من مجرد حفظٍ للطعام، فهي ذاكرة عائلية وجماعية. في القرى، كانت المونة علامة "البيت العامر"، ومقياسًا لحرص المرأة على بيتها، ومصدر أمان في فصل الشتاء الطويل.

في الماضي، كانت العائلات تُعدّ المونة يدًا بيد: الجارات يتبادلن الوصفات، والأطفال يساعدون في نشر البندورة لتجفيفها أو في تنظيف الزعتر. المونة كانت تُعبّر عن روح التضامن الاجتماعي؛ إذ تتشارك النساء ما تيسر من الخيرات وتساعد بعضهن بعضًا في تحضيرها.

تقول أم نبيل: "نحن تربّينا على المونة. كانت البركة تملأ البيت، وكل المكونات من أرضنا: العدس، القمح، العنب، البندورة. كنا نحضّرها بفرح، وليس بحسابات الربح والخسارة."

لكن تلك الصورة الدافئة التي لطالما رافقت الخريف اللبناني بدأت تتبدّد في السنوات الأخيرة، بعدما أثقلت الأزمات الاقتصادية كاهل العائلات، وغيّرت مفهوم المونة من "عادة سنوية" إلى "رفاهية موسمية".

المونة بين الضرورة والعجز

اليوم، لم تعد المونة كما كانت، ففي ظلّ الغلاء الفاحش وانهيار الليرة اللبنانية، ارتفعت كلفة إعدادها بشكل غير مسبوق. 
ولتحضير "مونة بسيطة" من المكدوس والمربى والزعتر، تحتاج الأسرة إلى ميزانية تقارب المئة دولار، بسبب ارتفاع أسعار الزيت والجوز ومواد التعبئة.

توضح محاسن، وهي تحضر مونتها للبيت وليس للتجارة، وتقول: "كنت أحضر المونة كل سنة، لكن هذه السنة لم أستطع. تنكة الزيت الجديدة حوالي ١٤٠ دولار، والجوز أغلى من اللحمة. بتّ أفضل شراء المونة الجاهزة في الدكان على ان أشتري المواد الأولية وأتعب بتحضيرها، لكن كلمة حق تقال الطعم لا يقارن بذلك الذي أحضره بنفسي". 

كثير من العائلات تخلت عن إعداد المونة أو اكتفت بكمّيات صغيرة جدًا. في المقابل، ظهرت حرفيات ريفيات حولن المونة إلى مصدر دخل، يبعن منتجاتهن عبر صفحات التواصل الاجتماعي، مستعينات بمبادرات من البلديات أو الجمعيات.
ففي بعض قرى الجنوب والبقاع، باتت المونة اليوم اقتصادًا منزليًا بديلاً، يوفر للنساء مورد رزق في ظل غياب فرص العمل.

تقول ام ابراهيم: "انا ابيع المونة في غالب الأحيان لمن يشتاقون للطعم البيتي الأصيل، في الماضي لم يخل اي بيت من المونة ومع تقدم السنين صارت المونة امتيازا، فوجد الناس أنفسهم يطلبونها ويفتشون عمن يحضرها، وصارت مورد رزقي منذ عشرات السنين".

الهوية الغذائية في خطر؟

تراجع المونة المنزلية لا يعني فقط خسارة عادة، بل أيضًا تهديدًا لجزء من الهوية الغذائية اللبنانية. فالمونة ليست مجرّد أطعمة محفوظة، بل هي فلسفة حياة تعكس العلاقة الحميمة بين الإنسان وأرضه، والاعتماد على الإنتاج المحلي بدل الاستيراد. في بلد يستورد معظم غذائه، تصبح المونة رمزًا للمقاومة الغذائية والاستقلال المعيشي.

يرى خبراء أن تراجع المونة يعني زيادة التبعية الغذائية، وفقدان جزء من الثقافة الإنتاجية اللبنانية. المونة كانت وسيلة لتقليل الهدر وتثبيت الناس في أرضهم. اليوم مع غلاء المواد الزراعية وانعدام الدعم، صارت تكلفتها أعلى من المنتجات المستوردة، وبهذا نخسر جزءًا من اقتصادنا الريفي.

محاولات لإحياء التراث

رغم الصعوبات، لا تزال بعض المبادرات تسعى للحفاظ على هذا التراث. فقد أطلقت جمعيات محلية في الشمال والبقاع ورشات تدريب للشباب حول إعداد المونة البيتية وتغليفها وتسويقها، في محاولة لربط التراث بالاقتصاد الحديث. كما تعمل تعاونيات نسائية على تصدير المونة إلى أوروبا والخليج، حيث يعيش المغتربون الذين يحنّون لطعم القرى اللبنانية.

يبقى تشرين في الوجدان اللبناني شهر الدبس والمكدوس والمربيات، وشهر الأمل بأن الخير لا ينقطع. لكن المونة، التي كانت في الماضي طقساً من الفرح والوفرة، تحوّلت اليوم إلى تحدٍ يومي أمام الغلاء والضيق.

ورغم ذلك، لا يزال في القرى من يغلي القدور حبًّا، لا ترفًا؛ إيمانًا بأن رائحة المونة لا تختفي، بل تبقى عابقة في الذاكرة، تحمل معها نكهة الأرض وكرامة الصبر.

أخبار ذات صلة

0 تعليق