الاتزان الاستراتيجى وسياسة الخطوط الحمراء

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

استخدم السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى مصطلح «سياسة الاتزان الاستراتيجى» خلال احتفالية إفطار الأسرة المصرية، خلال شهر رمضان الماضى، ليوضح أسلوب تعامل الدولة المصرية وتحركها، سواء فى الداخل أو الخارج، أمام الأزمات والقضايا والتهديدات التى تتعرض لها دون اندفاع أو تهاون.. وهذا ما يفسر لنا ما قامت به الدولة من رسم خطوط حمراء تجاه بعض القضايا التى تهدد أمنها القومى بصفة عامة، وهو ما حدث مع ليبيا وإثيوبيا وغزة، وأخيرًا السودان.

بل إن الدولة تعاملت بنفس السياسة مع التهديدات الداخلية أيضًا، وذلك عندما استشعرت خطورة استمرار نظام حكم جماعة الإخوان المسلمين، الذى كان يقوم على التفرقة والإقصاء بين أبناء الوطن الواحد، والعمل على تمكين الجماعة من السيطرة على مفاصل الدولة، والسماح للتنظيمات الإرهابية بالتواجد فى شمال سيناء والعريش بكامل أسلحتها ومعداتها، وذلك لمساعدة الجماعة فى تحقيق التمكين وتجاهل مبدأ المشاركة لا المغالبة، ثم التحول إلى العنف المسلح داخل البلاد، وتصاعد وتيرة العمليات الإرهابية داخل المدن المصرية. 

وعند هذه المرحلة ساندت القوات المسلحة شعبها فى ثورة يونيو ٢٠١٣ لإسقاط نظام الإخوان، بعد أن اكتشفت النوايا الحقيقية لتلك الجماعة، فوضعت خطًا أحمر حول تمددها وتشعبها، وتمت إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعى فى قيام دولة تقوم على الحق فى المواطنة والمشاركة، بالإضافة إلى القضاء على الإرهاب وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد. والحقيقة أن الدولة وشعبها وجيشها لم يقوموا بذلك إلا بعد إعطاء الجماعة الإرهابية الفرصة كاملة لإثبات حسن نواياها خلال الفترة من يناير ٢٠١١ حتى يونيو ٢٠١٣، وذلك فى إطار الالتزام بمبدأ الاتزان وعدم التسرع فى الحكم على أسلوب إدارتها البلاد.

وفى عام ٢٠٢١ أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى عن أن تقدم تركيا نحو مدينة سرت والجفرة فى ليبيا يمثل «خطًا أحمر»، وذلك لاتخاذ القوات التركية قرارات توسعية للسيطرة على كامل الأراضى الليبية، بعد أن تمكنت، بالتنسيق مع الحكومة الليبية المؤقتة فى طرابلس، من تحقيق ذلك، ثم حاولت التوجه شرقًا، وهو الأمر الذى جعل اللواء خليفة حفتر، الذى تسيطر قواته على مدينة بنغازى، إلى اللجوء لمصر لحماية باقى الأراضى الليبية، خاصة مع بدء اقترابها من الحدود المصرية، وهو الأمر الذى دفع مصر للإعلان عن أن أى تقدم أو اقتراب لأى قوات أجنبية متواجدة فى ليبيا من الناحية الشرقية المتاخمة للحدود المصرية هو «خط أحمر» سوف تواجهه الدولة المصرية بكل قوة وحزم.

ومع الدولة الإثيوبية استمرت المفاوضات واللجوء إلى كل الوسائل السلمية والوساطات الدولية لمدة لا تقل عن عشر سنوات، كى لا يؤثر بناء السد الإثيوبى على الحصة المائية التى ترد إلى مصر سنويًا، واعتبار ذلك مسألة وجود وحياة، ومع ذلك فقد رفضته إثيوبيا بكل تعنت وغرور، وهو الأمر الذى جعل الرئيس يعلن عن أن مياه النيل «خط أحمر» لأنه يتعلق بحقوق مصر التاريخية، وأن ذلك يمثل خطرًا كبيرًا على حياة الشعب المصرى، وهنا أيضًا نشير إلى مصداقية السيد الرئيس الذى راعى كل أساليب الاتزان الاستراتيجى قبل أن يهدد بالتصدى لمواقف الدولة الإثيوبية بكل الأساليب المتاحة، إذا استمرت على هذا التعنت ورفض الحلول السلمية.

وفى غزة أعلن الرئيس أمام العالم عن أن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم يمثل «خطًا أحمر» منذ اليوم الأول بعد أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ التى قامت بها حركة «حماس» الإخوانية، والتى أعطت بموجبها ذريعة لإسرائيل لإبادة قطاع غزة عن بكرة أبيه، حيث نجحت فى تصدير صورة للعالم أجمع بأنها تعرضت لعمليات إرهابية قامت بها تلك الحركة، ونجحت فى كسب تعاطف المجتمع الدولى. وعلى الرغم من ذلك كانت الكلمة المصرية هى الأقوى أمام العالم عندما فطن الرئيس إلى المخطط الإسرائيلى الرامى إلى تهجير الشعب الفلسطينى وتصفية قضيته برمتها، وما زال هذا الأمل هو ما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه، وما زالت مصر تقف بالمرصاد لإجهاض هذا الهدف وتلك المخططات.

ومؤخرًا، حضر الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالى السودانى، إلى مصر مطالبًا بالعون والمساعدة تجاه العدوان الذى تتعرض له الأراضى السودانية من قوات الدعم السريع، التى تضم ميليشيات متعددة الأجناس والمأجورة والممولة من قبل بعض الدول العربية والأجهزة المخابراتية الدولية، وتحاول خلق كيانات موازية للشرعية السودانية، ويبدو أنها حققت بالفعل نجاحات للوصول إلى هذا الهدف، وذلك على حساب آلاف الشهداء من ضحايا الشعب السودانى الشقيق، وهو الأمر الذى دفع السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة السودانية ومؤسساتها، ومنع المساس بها أو تقويضها، وأن ذلك يعتبر «خطًا أحمر» لا يمكن تجاوزه، مشددًا على حق مصر الكامل فى اتخاذ كل التدابير والإجراءات التى يكفلها القانون الدولى واتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين، بما يضمن عدم المساس بهذه الخطوط الحمراء أو تجاوزها، واعتبار أن ذلك يمس الأمن القومى المصرى مباشرة، خاصة أنه يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالأمن القومى السودانى، فى ظل تشابك المصالح والاعتبارات الجغرافية والأمنية والإنسانية والتاريخية بين البلدين، مع الرفض القاطع لأى محاولات لانفصال أى جزء من الأراضى السودانية أو إنشاء كيانات موازية أو الاعتراف بها، باعتبار أن ذلك يمثل مساسًا مباشرًا بوحدة السودان وسلامة أراضيه.

الشاهد، فى كل ما أشرت إليه من تحديات تهدد الأمن القومى المصرى، أنه على الرغم من كل ذلك فإن مصر لم تنجرف نحو أى عمل عسكرى يُسقط حقها فى أن تكون دائمًا «الدولة المرجعية» فى جميع التحديات والأزمات التى تشهدها المنطقة، والتى تمثل خطرًا على الأمن القومى المصرى، وهو ما جعلها محل تقدير واحترام من جميع دول العالم، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التى بدأت تسعى حثيثًا للتدخل القوى والمؤثر على جميع تلك الحروب والأزمات التى من الممكن أن تؤثر على الأمن والاستقرار فى مصر.

إن مصر ما زالت تتمسك بمحددات أخلاقية وسياسية تُمثل التوازن الاستراتيجى لها بين جميع دول العالم، وتحكم السلوك الإقليمى والدولى لها، خاصة فيما يتعلق برؤيتها لنزاعات المنطقة..ومن أهم تلك المحددات:

- التأكيد على سيادة الدول الأخرى وسلامة أراضيها من التفكك والانقسام، دون التدخل فى شئونها الداخلية طالما أن ذلك لا يمثل تهديدًا للأمن القومى المصرى.

- احترام ودعم الدول الوطنية وحقوق الإنسان بها، ونبذ العنف ضد شعوبها، سواء فى المنطقة العربية أو خارجها.

- رفض التعامل مع الحكومات المعتدية أو المتعدية، وكذلك الميليشيات والجماعات المسلحة.

- البعد عن الاستقطاب الإقليمى مهما كانت المغريات، وإقامة علاقات متوازنة مع الدول المختلفة وفقًا لأبعاد أمنها القومى.

- عدم اللجوء إلى القوة العسكرية لحل الأزمات، على الرغم من رسم خطوط حمراء إذا أثر ذلك على أمنها القومى، بل تغليب الحلول الدبلوماسية فى المقام الأول.

هذه هى سياسة مصر القائمة على مبدأ «الاتزان الاستراتيجى» الذى يراعى فى المقام الأول الأمن القومى المصرى وأمن المنطقة العربية بحسبانهما يؤثر كل منهما على الآخر، بما يجعل سياستها تتسم بالقوة الأخلاقية، وتؤكد ثوابت سياسية راسخة تحظى باحترام العالم بأسره

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق