الأخوين الصبّاغ… عشرون عامًا من المسرح والغناء والرسائل الإنسانية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يمثّل الأخوان فريد وماهر الصبّاغ حالة فنية خاصة فى المشهد المسرحى الغنائى اللبنانى، حالة لا تقوم على الاستعراض ولا على الخطاب المباشر، بل على بناء فنى متأنٍّ يجمع بين النص الذكى، الموسيقى الواعية، والرمز الإنسانى العميق. منذ بداياتهما، لم يتعاملا مع المسرح بوصفه مساحة للترفيه فقط، بل كمنبر للتفكير وطرح الأسئلة، حيث يتقدّم الفن عندهما بوصفه فعل وعى قبل أن يكون فعل عرض.

تميّزت تجربتهما بقدرة واضحة على صياغة نصوص متعددة الطبقات؛ أعمال تُرى وتُسمع بسهولة، لكنها لا تُفهم بالكامل إلا لمن يملك استعدادًا للغوص خلف الظاهر. فالمشاهد العابر يلتقط الحكاية، أما المشاهد الواعى فيقرأ ما بين السطور، ويفكّك الرموز، ويصل إلى الرسائل المبطّنة التى تشكّل جوهر مشروعهما المسرحى.

منذ أعمالهما الأولى «تشى غيفارا»، مرورًا بمحطات مسرحية أخرى «من أيام صلاح الدين»، «الطائفة 19»، «حركة 6 أيار»، «مش بس عالميلاد»، وصولًا إلى «أنا وغيفارا»، راكم الأخوان الصبّاغ تجربة مسرحية غنائية متماسكة، حافظت على هويتها الفنية والفكرية، ورفضت الوقوع فى التكرار أو المباشرة.

من «تشى غيفارا» إلى «أنا وغيفارا»: مسار استقرائى ورسالة تتكشف تدريجيًا

فى مسرحية «أنا وغيفارا»، اعتمد الأخوان الصبّاغ المقاربة الاستقرائية «démarche inductive» بوضوح. فى الوهلة الأولى، يظنّ المشاهد أن العمل يتمحور حول تشى جيفارا وحده: الثائر، البندقية، الخطاب الثورى، وصورة الأيقونة التاريخية. غير أن هذا الانطباع الأولى لا يلبث أن يتفكك تدريجيًا مع توالى المشاهد، لتنكشف طبقات أعمق من المعنى.

تفاصيل صغيرة، مشاهد عابرة ظاهريًا، رموز صامتة، كلها تتراكم لتقود المتلقى، خطوة خطوة، إلى الفكرة الكبرى: المسرحية ليست عن جيفارا كشخص فقط، بل عن مسارٍ كامل، عن عشرين عامًا من المسرح، وعن مراجعة نقدية لفكرة الثورة حين تفقد بوصلتها الإنسانية.

يبرز مشهد مصادرة البندقية من الصبية بوصفه لحظة مفصلية فى هذا السياق. العبارة التى تُقال:
«بعد ناقصنا أولاد»
لا تُفهم هنا كرفض عابر للعنف، بل كإدانة واضحة لمحاولة توريث الفكر الثورى بعد موت جيفارا. إنها إشارة إلى أن الثورة، حين تُنقل بلا وعى ولا مراجعة، تتحول إلى عبء أخلاقى، وإلى أن استمرار العنف بعد غياب صاحبه يعنى انحراف الفكرة لا خلودها. فى هذا المشهد، تبدو الثورة وكأنها انكفأت وانضبطت بعد موت رمزها، لا لأنها انتهت، بل لأن استمرارها بلا إنسانية يفقدها معناها.

كما تشير المسرحية إلى أن التاريخ يعيد نفسه طالما القوى الكبرى تسيطر على مسار الأحداث، وأن الثورة تفشل أو تُحرَف حين تُترك بلا وعى داخلى، مشهد يظهر أن الواقع السياسى لا يتغير بسهولة، مهما حاول الثوار التغيير.

السيّدة العذراء وجيفارا: التناقض الذى يكشف الجوهر

يبلغ العمل ذروته الرمزية فى مشهد ظهور السيّدة العذراء أمام جيفارا. هنا يتجلّى التناقض الجوهرى: رجل لا يستند إلى أى إيمان روحى، يبرّر القتل باسم الثورة، فى مقابل امرأة تجسّد الإيمان، الطهارة، السلام، والمحبة.

من خلال هذا الحضور، تُبلَّغ الرسالة الأخلاقية الأوضح فى العمل:
«لا يحقّ لنا أخذ روح أحد. الله وحده يملك هذا الحق. ولا يمكن لأى ثورة أن تبرّر القتل».

المشهد لا يُدان فيه جيفارا كشخص فحسب، بل تُدان الفكرة حين تنفصل عن بعدها الإنسانى. السؤال المطروح ليس تاريخيًا، بل أخلاقيًا: ما قيمة الثورة إن فقدت إنسانها؟ وما جدوى المبدأ حين يُبنى على الدم؟

البيانو الأبيض والبيانو الأسود: ثنائية المعنى والحياة

يحضر البيانو الأبيض والبيانو الأسود كأحد أكثر الرموز كثافة فى العمل. كل بيانو يُعزف على حِدة، لكنه فى الوقت نفسه جزء من ثنائية لا تكتمل إلا معًا. الأبيض والأسود هنا ليسا مجرد لونين، بل تمثيلًا بصريًا وفكريًا للضوء والظل، للخير والشر، للسؤال والجواب، وللتجربة الفردية فى مقابل المعنى الجماعى.

هذا الرمز يعكس فلسفة الأخوين الصبّاغ فى الفن والحياة: الاختلاف قائم، بل ضرورى، لكن المعنى لا يكتمل إلا عبر التوازن والتكامل، لا عبر الإقصاء.

المسرح الغنائى: حين تصبح الأغنية جزءًا من الفكرة

فى مسرح الأخوين الصبّاغ، لا تؤدّى الأغنية دور الفاصل، بل تتحول إلى عنصر سردى أساسى.
صوت فريد الصبّاغ يتميّز بعمق درامى واضح، وبثقل عاطفى قادر على نقل الصراع الداخلى للشخصية من دون افتعال. أما صوت كارين رميا، فيجمع بين الصفاء والرقة من جهة، والقوة العاطفية المتزنة من جهة أخرى، مع قدرة لافتة على لمس الإحساس بدقة وصدق.

هذا التلاقى الصوتى لا يزيّن المشهد، بل يعمّق معناه، ويمنح النص بعدًا وجدانيًا يوازى عمقه الفكرى.

الأبطال

شارك فى بطولة «أنا وغيفارا»:
نادين الراسى، كارين رميا، أنطوانيت عقيقى، جوزف آصاف، ريمون صليبا، رفيق فخرى، سبع بعقلينى، آلان العيلى، إضافة إلى فريد وماهر الصبّاغ.

خاتمة

فى المحصلة، مسرح الأخوين فريد وماهر الصبّاغ ليس حدثًا عابرًا، بل تجربة فكرية وإنسانية متكاملة. من «تشى غيفارا» إلى «أنا وغيفارا»، ومن البيانو الأبيض إلى البيانو الأسود، تتشكّل رحلة مسرحية تعتمد الكشف التدريجى للمعنى، وتراهن على وعى المشاهد لا على تلقينه.

وفى ظل الواقع اللبنانى المأزوم، يبدو هذا المسرح شبيهًا بلبنان نفسه: بلدٌ يقف فى عزّ العواصف، يصرّ على البقاء، ويخلق الضوء من العتمة. هكذا هما الأخوان الصبّاغ؛ يثبتان أن الفن، حين يكون صادقًا، قادر على الصمود، وعلى طرح الأسئلة الكبرى، وعلى الدفاع عن الإنسان.. حتى فى أصعب الأزمنة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق