الإخوة الموازية: كيف توظف القوى الخفية المفاهيم الإنسانية لاختراق مصر؟

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الإثنين 17/نوفمبر/2025 - 10:11 م 11/17/2025 10:11:20 PM


في مقالي السابق حاولتُ تفكيك المصطلحات التي تُطلّ على العالم من نوافذ تبدو إنسانية بينما قد تُخفي في باطنها أهدافًا هندسية لإعادة تشكيل الوعي، واليوم، يبدو لزامًا أن نكمل هذه السلسلة، لأن القوى الخفية – بما تمثّله من شبكة مصالح عالمية أكثر منها تنظيمًا سريًا – لم تعد تبحث عن الشعارات الكبرى فقط، بل عن المنافذ الدقيقة التي تفتح لها باب التأثير داخل الدول، وخاصة الدول ذات الوزن الثقيل مثل مصر.
ولعل أخطر ما في الأمر أن على رأس هذه القوى، الماسونية الجديدة التي لم تعد تعمل بشعاراتها الصارخة القديمة، بل صارت تتخفّى في تعريفات براقة مثل الإخوة الإنسانية، والتعاون الكوني، والاستثمار العابر للحدود، والدعم المجتمعي، وأيضا النفوذ الرياضي.
كل هذه المصطلحات المخترقة تبدو جسورا تعبر من فوقها الشبكات الخفية، وهي لا تأتي بوجهها المباشر، بل تأتي من حيث لا نتوقع لحصار الدولة المصرية، والتحكم في مفاصلها، واستهدافها عبر الاقتصاد والرياضة والمجتمع.
ومن بين أخطر مصطلحات التوأمة الموازية لمفهوم الإخوة الإنسانية المستغل، هو مصطلح الاستثمار العابر للحدود، وهو مصطلح يبدو في ظاهره تنمويًا راقيًا، يعكس حركة رؤوس الأموال من دولة لأخرى بهدف دعم النمو، وتبادل الخبرات، وفتح الأسواق، وجذب التكنولوجيا الحديثة، وتوسيع قاعدة الإنتاج، وبهذه الصورة المعلنة، يبدو الاستثمار العابر للحدود جزءًا طبيعيًا من الاقتصاد العالمي الحديث، وعنصرًا مهمًا لأي دولة تريد أن تلحق بقطار التنمية.
والاستثمار الأجنبي ليس مشكلة في ذاته، بل هو ضرورة لأي دولة تسعى للتنمية. لكن هناك شعرة دقيقة بين الاستثمار وبين السيطرة، فالاستثمار يُضيف، أما السيطرة فتمتص، والاستثمار يدخل كشريك، أما السيطرة فتلعب دور الوصي، والقوى الخفية بمفهومها الشبكي العالمي تدرك جيدًا أن قوة مصر الحقيقية ليست فقط في حدودها وجيشها، بل في شركاتها الكبرى، شركات الطاقة، الموانئ، الإنتاج الثقيل، الصناعات الإستراتيجية، الاتصالات، وحتى المياه والغذاء، هذه الشركات ليست مجرد كيانات اقتصادية، بل هي أذرع الأمن القومي.
لكن بعض الممارسات التي نشهدها تجعلنا نتوقف ونتساءل: هل كل استثمار عابر للحدود هو بالفعل استثمار؟ أم أن بعضها يتحوّل – دون إعلان – إلى محاولة للسيطرة لا للشراكة، وإلى استحواذ لا إلى تنمية؟ خاصة حين تتجه الأنظار إلى الشركات العملاقة المرتبطة مباشرة بأمن مصر القومي، وتحديدا في القطاع الخاص الذي يمكن مبادلة أسهمه وبيعها أو شرائها في البورصات المحلية والعالمية، فنجد محاولات للولوج داخل هذه الشركات تحت شعار ضخ الاستثمارات والتوسع والدعم الاقتصادي، بينما الجوهر الحقيقي لا يخلو من احتمالية رغبة لوضع مصر بين مطرقة الاقتصاد العالمي وسندان الأمن القومي، والتحليل العميق يكشف أن بعض هذه المحاولات تُشبه شراء مفاتيح البلد من الباب الخلفي
والتنفيذ الفعلي لوضع مصر تحت هذا الضغط يبدأ من ممارسات تبدو في ظاهرها اقتصادية بحتة، لكنها في جوهرها تحمل نمطًا مريبًا من إعادة توزيع مراكز السيطرة، وإحدى أبرز هذه الممارسات هي إنشاء شركات حديثة العهد اقتصاديًا في بعض دول المنطقة العربية والشرق الأوسط، لا تملك سجلًا تشغيليًا حقيقيًا، ولا تباشر نشاطًا فعليًا على الأرض، ثم تدخل فجأة في مفاوضات للاستحواذ على شركات مصرية عملاقة تمتلك أصولًا وإيرادات متراكمة عبر عقود.
هذه الشركات المنشأة حديثًا، والتي يُطلق عليها في الاقتصاد (كيانات غلافية) أو Shell Companies - لا تمتلك أصولًا تشغيلية تولد إيرادًا ذاتيًا، بل ستعتمد بالكامل في نتائجها المالية على الشركات التي تستحوذ عليها لاحقًا، وبمعنى أوضح، هي كيانات خالية من الخبرة، بلا مصانع، بلا أصول إنتاج، وبلا تدفقات نقدية مستقلة، ومع ذلك تُطرح أسهمها في عمليات مبادلة وكأنها شركات راسخة تتمتع بقدرة مالية حقيقية.
وهنا يكمن الخطر الأكيد، أن أسهم هذه الشركات لا تستند إلى سجل مالي مستقل، ولا إلى قدرة تشغيلية موثوقة، وبالتالي تصبح عملية تقييم أسهمها المتبادلة أو المتداولة بين الطرفين عملية شديدة الهشاشة، وقد تُستغل لتضخيم قيمة الشركة الجديدة بصورة اصطناعية، وفي النهاية، ينتج وضع مختلّ تصبح فيه الشركة المصرية - ذات القيمة الحقيقية - خاضعة لكيان خارجي لا يملك وزنًا اقتصاديًا فعليًا، فيتحول الأمر من استثمار إلى سيطرة، ومن شراكة إلى هيمنة.
بهذه الطريقة يتم وضع مصر بين مطرقة الاقتصاد العالمي، الذي يفرض قواعده عبر أدوات ظاهرها مالية، وسندان الأمن القومي الذي يهدده أي انتقال غير محسوب لملكية شركات تحمل مفاتيح حساسة في الصناعة والطاقة والبنية التحتية، والضغط هنا لا يأتي عبر جيوش أو سياسات معلنة، بل عبر “هندسة مالية” توهم بالفرصة، بينما هي في حقيقتها مسار تفريغ تدريجي لمراكز القوة الوطنية.
هنا تحديدًا يبدأ الشك المشروع، لماذا هذا التركيز على الشركات المفصلية؟ ولماذا يأتي بعض التمويل محمّلًا بشروط غير مريحة؟ ولماذا تُدفع بعض الكيانات المحلية دفعًا إلى صفقات غير متوازنة؟ هذه الأسئلة ليست من باب الهواجس، بل من باب الوعي، لأن التفرقة بين الاستثمار بوصفه تعاونًا، وبين الاستثمار بوصفه محاولة سيطرة، هي أحد ميادين حماية الدولة المصرية الحديثة.
والخطورة أن هذا النمط من السيطرة عادة لا يأتي من حكومات، بل من شبكات مصالح دولية لها توجهات سياسية واقتصادية تتجاوز الحدود، وتتشابك مع نفوذ آخر مثل النفوذ الماسوني الذي يعمل على إعادة صياغة ميزان القوى في الشرق الأوسط.
وهنا قد تصبح الأخوة الإنسانية وما يوازيها من معاني أخرى، مصطلحًا سياسيًا، أحيانًا يتم توظيفه لإخفاء مشروع اختراق اقتصادي، لا لتعزيز التعاون الحقيقي.
ومع كل هذا، فإن الدولة المصرية، عبر أجهزتها الرقابية والمالية، ومؤسساتها السيادية، ومنظومتها المعلوماتية الواسعة، تقف في موقع الحارس الأمين على الأمن القومي في صوره الحديثة، فهذه الأجهزة تعرف تمامًا طبيعة المخططات العابرة للحدود، وتتابع بدقة أي تحركات مشبوهة قد تمس مفاصل القوة الاقتصادية أو مراكز الثقل الاستراتيجي للدولة، ولا شك أن خبرتها الطويلة، وقدرتها على قراءة المشهد الإقليمي والدولي، تجعلها واعية تمامًا بوسائل المواجهة، وقادرة على تفكيك أي محاولة للالتفاف على مصالح مصر أو استغلال متغيرات السوق لإعادة تشكيل موازين القوة داخل الدولة، ومصر اليوم ليست ساذجة، ولا غافلة، ولا تترك ثغرات مفتوحة، بل تقف صلبة، مدركة، ومتيقظة في حماية أمنها القومي بأبعاده الاقتصادية الجديدة.
الأمر الثاني الذي استوقفني كثيرا،  هذه الشعارات الرنانة النبيلة عن ممارسة الرياضة بصفة عامة، وعن كرة القدم بصفة خاصة، مثل (الرياضة للجميع)، (الساحرة المستديرة)، (الروح الرياضية هي تقبل النتيجة مهما كانت، انتصارا أو خسارة)، (كرة القدم هي القلب النابض للحياة)، والأهم هو إعلان الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، مؤخرا، إطلاق جائزة جديدة للسلام تحمل اسم (جائزة فيفا للسلام - كرة القدم توحد العالم)، ستُمنح سنويًا للأفراد الذين يسهمون في نشر السلام وتوحيد الشعوب من خلال كرة القدم، وستُقدَّم الجائزة لأول مرة خلال قرعة كأس العالم 2026 المقررة في واشنطن يوم 5 ديسمبر المقبل، وأوضح رئيس "فيفا" جياني إنفانتينو أن الهدف منها تكريم الجهود البارزة التي تسهم في إنهاء النزاعات وتعزيز روح الوحدة، والمثير أن هذا يأتي بعدما استُبعد ترشيح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تربطه علاقة وثيقة مع إنفانتينو، لجائزة نوبل للسلام في نسختها الأخيرة.
ورغم هذه الشعارات النبيلة، لم تعد كرة القدم في مصر على سبيل المثال - بكل أسف - تجسيدًا للشعارات النبيلة التي ترفعها الرياضة عن السلام والروح الرياضية والتنافس الشريف، فعلى مدى السنوات الأخيرة، لم تُثبت التجربة المصرية يومًا أن كرة القدم كانت أداة من أدوات تهدئة النفوس أو صناعة التقارب الاجتماعي، بل تحولت في كثير من محطاتها إلى منصة لإشعال الفتن، وتوسيع الفجوات بين الجماهير، وزرع الانقسام بدلًا من التلاقي، ثم إدمان من يتابعها، أو يشجعها، أو يتقوقع طوال عمره في ناد واحد، حتى ولو لم تتح له الفرصة ليدخل بابه من الأساس، ومع ذلك تجده يتكلم عن النادي واللاعبين وكأنه يتكلم عن نفسه،، فيشير إلى فريقه بنحن، ويتكلم عنه مستخدما.. لنا وعلينا ومنا وفينا، ويعتنق اعتناق المؤمن بكل إشارة تربطه بفريقه.
لقد أفرزت التجربة ممارسات تجاوزت حدود التشجيع الطبيعي إلى تعصّب أعمى، وهتافات جارحة، وحروب إلكترونية، وانفلات إعلامي، وأولوية على كل مشاغل الحياة، حتى أصبح الرأي العام مشدودًا إلى قضايا تافهة تُصنع عمدًا وتُضخّم، بينما يغيب وعيه عن الملفات الجوهرية التي تخص مستقبل الدولة وبناء الإنسان، وهكذا تحوّلت كرة القدم من رياضة يفترض أن تُوحّد، إلى أداة - شاء البعض أو لم يشأ - لتشتيت الانتباه وإثارة الغضب والفرقة في مجتمع يحتاج إلى الوعي أكثر مما يحتاج إلى الهتاف.
وفي مصر.. وفوق المسطح الأخضر، القلة فقط في هذه الصناعة من تٌملأ جيوبهم، والأكثرية هم الضحايا الذين ينخرطون في العناد والعصبية والانتماء الكاذب، والعقد النفسية، والدفاع عن ذوي الجيوب المملوءة بالمال المهدر في الفراغ، والسلطات الرياضية التي لا تقدم الجديد غالبا، ويصابون بالاحتقان والغرور، واحتقار المنافس، والعنصرية والسباب والانتقاص، ولم يخل الأمر من انتشار ممارسات السحر، واتهام الجن بالتدخل، وبقية الخرافات والترهات، وكم شاهدنا العلاقات الأسرية والإنسانية وهي تتدمر وتتحطم بسبب مباراة في كرة القدم، أومن يفقد حياته تعصبا بعد أزمة قلبية خاطفة وقاتلة بسبب خسارة فريقه.
الأمر بدا واضحا أنه ليس رياضة للمتعة، وكرة القدم لم تعد القلب النابض للحياة، بل القلب المتوقف المسروق بالتنافس المحموم والفتنة المشتعلة والريبة والتخوين والثقة المهتزة دائما. 
وعند هذه النقطة نعود إلى السؤال الجوهري: هل يمكن النظر إلى كرة القدم بوضعها الحالي بوصفها أداة ضمن منظومة خفية تُسهِم - عمدًا أو عفويًا - في إضاعة العقول، وتشتيت الطموحات، وإبقاء الشباب أسرى شعارات وهتافات لا تصنع مستقبلًا ولا تبني مجتمعًا؟ هل ما نشهده من انشغال محموم، وتعصّب مَرَضي، وصراعات لا تنتهي، هو نتاج مؤامرة كونية محكمة، أم مجرد انحراف طبيعي لظاهرة بشرية فقدت ضبطها وانفلتت من سياقها؟
الحقيقة أن الجواب ليس واحدًا ولا يقينيًا؛ فقد يكون جزء مما يحدث مُستغَلًا بالفعل، وقد يكون مجرد فوضى بشرية فتحت الباب لمن يتربص بالوعي العام.
لكن المؤكد أن من ابتلعتهم موجة كرة القدم بحاجة إلى لحظة صادقة مع النفس، لحظة يراجعون فيها ما جلبته عليهم اللعبة من انفعالات زائدة، وانسحابات من الواقع، وعيشٍ داخل عالم افتراضي يجعل الخسارة معركة وجود، والفوز خلاصًا شخصيًا، بينما يتأثر بهم أهلهم ومن حولهم، ممن يجدون أنفسهم ضحايا عصبيتهم وصراخهم واندفاعاتهم. 
إن هذه الحالة لا تقتل العقل وحده، بل تُسمّم الأجواء الأسرية والاجتماعية، وتزرع بذور الكراهية والشك حتى بين الأصدقاء والأطفال.
ولست هنا بصدد إثبات تورّط قوى خفية - أكانت ماسونية أو غيرها من الشبكات المتحكمة في توجّهات البشر واقتصادات العالم - ولا نفي ذلك، ما أقصده ببساطة طرح فكرة أن ما يجري محليًا وعالميًا في ساحة كرة القدم قد منح هذه القوى، إن وُجدت، المساحة الخصبة والبيئة المهيأة لبسط نفوذها على الوعي الجمعي، وعلى صناعة القرار أحيانًا، من خلال ظاهرة بدأت يومًا كرياضة صحية نبيلة، ثم تحوّلت في زمننا إلى منصة جاهزة لتوجيه الشعوب، وإشغالها، وتفريغ عقولها من أولويات البناء والنهضة.


وإذا كان الاقتصاد والرياضة يمثلان بوابتين واضحتين للاختراق، فإن أخطر المنافذ الأخرى يبقى في الاختراق المجتمعي الناعم، ذلك الذي تمارسه القوى الخفية ومن بينها شبكات “الماسونية الجديدة” عبر مفاهيم تبدو إنسانية ومسالمة في ظاهرها، لكنها في حقيقتها تُعيد تشكيل الوعي من الداخل.
هذا الأسلوب ليس جديدًا على مصر؛ فبلادنا شهدت منذ أواخر القرن التاسع عشر مواجهات فكرية وسياسية مع الجمعيات والأندية الماسونية التي حاولت آنذاك التغلغل داخل طبقات المجتمع المؤثرة، مستخدمة شعارات الخير، والمعرفة، والتنوير، لإنشاء دوائر نفوذ موازية للسلطة الوطنية.
ومن المثير أنه بعد ثورة يوليو 1952، التقى الرئيس جمال عبد الناصر بوفد من الماسونيين في الإسكندرية، واستمع إليهم لمدة ساعة حول نشاطهم، ثم أصدر في مساء اليوم نفسه قرارًا بإغلاق أكبر محفل ماسوني في العالم العربي وإلقاء القبض على أعضائه، وهذا القرار جاء بسبب عدم توافق سرية المحافل مع سياسة الدولة وإشرافها الكامل على جميع الجمعيات
وبعد ذلك طلبت الجمعيات الماسونية فى مصر تسجيل تنظيماتها بوزارة الشؤون الاجتماعية، فطلب منها المسؤولون الخضوع للقانون المنظم لعمل الجمعيات، لكن القائمين عليها رفضوا الاستجابة لهذا المطلب الحكومي من الدولة المصرية وقتها، مما دفع الدكتورة حكمت أبوزيد وزيرة الشؤون الاجتماعية في ذلك الوقت،  بإصدار قرارها بحل الجمعيات والمحافل الماسونية فى مصر يوم 18 أبريل عام 1964، وشمل القرار وفقا لما نشرته جريدة الأهرام فى عددها الصادر يوم 19 أبريل 1964 (حل الجمعيات الماسونية وهى: المحفل الماسوني اليوناني، ومحفل خوفو فى القاهرة، والمحفل الأكبر الوطني لوادي النيل بالإسكندرية وفروعه بالإسماعيلية منها محافل، إسماعيل، وزيتون، والمساواة، وجمعية الشرق الأكبر المصري، وفروعها فى بورسعيد والقاهرة والإسماعيلية وهى، محافل التوفيق، سولون، فيتكس، القومية، لايركيبون، مقام إيزيس، هرميس، التحرير، فترايتوس، والجمعية الخيرية الماسونية بالمنصورة).
ونص القرار على أن تقوم مديريات الشؤون الاجتماعية بالمحافظات بتعيين من يقوم بتصفية هذه الجمعيات التى تقع فى دائرة اختصاصها، وإعادة توجيه أموال الجمعيات الماسونية جميعها بعد التصفية إلى اللجان الفرعية لمعونة الشتاء فى المحافظات التى تقع فى دائرة اختصاصها، وقد أظهر هذا القرار أن عدد المحافل الكائنة فى ذلك الوقت بمصر بلغ 26 محفلا، وأن أغلبها محافل يونانية، وكان من بين هذه المحافل، المحفل الأكبر الوطني الذي نقل مقره من القاهرة إلى الإسكندرية قبل 23 يوليو 1952. 
ووفقا لما ذكره الدكتور على شلش فى كتابه (الماسونية فى مصر) أنه كان مما نشرته جريدة الأهرام عن هذا القرار  أن سبب وقف نشاط الجمعيات الماسونية  هو أن اجتماعاتهم كانت سرا مغلقا حتى على الدولة، أما مجلة آخر ساعة، فنشرت تحقيقا بعنوان (سر خطير وراء حل الجمعيات الماسونية)، جاء فيه: (عندما طلبت الجمعيات الماسونية بالجمهورية العربية المتحدة تسجيل تنظيماتها بوزارة الشئون الاجتماعية، طلب منها المسؤولون تطبيق قانون الجمعيات عليها، وهذا القانون يحتم خضوع كل الجمعيات داخل الجمهورية لإشراف وزارة الشئون الاجتماعية، ويكون للمسؤولين فى الوزارة حق التفتيش على أعمال الجمعية للتأكد من عدم مخالفتها للقانون، ورفضت الجمعيات الماسونية ذلك لأنه يتعارض مع السرية التامة التى تعيش فيها، فقررت الحكومة إلغاءها فى مصر لأن أمن الدولة وسلامتها اقتضيا إلغاء هذه الجمعيات). 
ولأن الكثير من البلاد العربية، كانت محافلها تقام تحت رعاية المحفل الأكبر المصري، كما هو الحال في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وقد تأثرت كثيرا بالقرار المصري، فقررت سوريا إغلاق المحافل الماسونية فى شهر أغسطس 1965، وفى نفس الشهر ألغى لبنان عقد المؤتمر الماسوني العالمي الذي كان من المقرر عقده فى مدينة بيروت. 
والمقلق الآن، في إطار ما تواجهه مصر من حرب وجودية الآن بسبب مواقفها الوطنية والقومية الصامدة، لو أن  بعض هذه الأندية والجمعيات في مصر الآن تحمل أيديولوجيات مرتبطة بالفكر الماسوني، والأخطر ليس في مجرد ارتباطها الفكري، بل في الطريقة التي تمارس بها نفوذها من خلال العمل على تمرير أغراض مختبئة تحت مصطلحات الحرية وحقوق الإنسان والمساواة وإزالة الفوارق، وتوظف المصطلحات الموازية لمفهوم "الإخوة الإنسانية" المستغل كثيرا لتسويق أهدافها، وبعض هذه الكيانات كان له دور واضح في عقود سابقة في الضغط على صانع القرار، سواء عبر الترويج لقوانين واجتهادات رسمية، أو دفع السياسات نحو مسارات واجهت معارضة شعبية واسعة، ومعارضة من المؤسسات الدينية العريقة مثل الأزهر الشريف، كما هو الحال في عدد من المبادرات التي حاولت إعادة تشكيل أطر المجتمع من الداخل وفق رؤى خارجية لا تتوافق دائمًا مع مصالح الدولة أو الوعي الوطني.
لقد أدركت القوى الخفية صاحبة النفوذ الماسوني، قديمًا وحديثًا، أن السيطرة لا تُمارس بالسلاح وحده، بل من خلال مثلث بالغ الخطورة، يتمثل في الاقتصاد والرياضة والاختراق المجتمعي، فهذا المثلث يمثل رأس الحربة في إعادة تشكيل الوعي وتوجيه مسارات الأمم، فالاقتصاد هو يد التحكم في القرار، والرياضة هي وسيلة صرف العقول واحتواء الغضب وتوجيه الانفعالات إذا لم يحسن استغلالها لصحة الإنسان والحفاظ على نشاطه وبنيته الصحية القوية، أما الاختراق المجتمعي فهو الأرض التي تُزرع فيها الأفكار والمعايير الجديدة تحت لافتات براقة من حقوق الإنسان والحريات والتحديث والانفتاح، وعندما تجتمع هذه الأضلاع الثلاثة معًا، تملك تلك القوى قدرة شبه كاملة على صناعة اتجاهات الرأي العام، وتحريك الشعوب، وخلق أزمات أو امتصاصها، والتحكم في مسارات الدول من الداخل، دون أن تطلق رصاصة واحدة.
كل هذا التاريخ يعكس كيف يمكن أن تكون مصر حجر عثرة في مواجهة كل القوى الخفية الساعية لإدارة العالم من الظل، ومن بينها الحركة الماسونية العالمية التي واجهتها مصر بشراسة ومواقف واضحة، منذ لحظة إدراكها لخطورة هذا التغلغل على الهوية الوطنية ووحدة القرار. 
وما نراه اليوم من ضغوط، ومحاولات للحصار الاقتصادي، وتيارات تسعى لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، ليس إلا امتدادًا لذلك الصراع القديم بصور جديدة، ومحاولات متكررة لإضعاف الدولة التي لطالما كسرت مخططات الآخرين، وأفشلت مشروعات لم يكن يُراد لها سوى أن تُعيد تشكيل الشرق الأوسط وفق هندسة خارجية.
ونُخطئ كثيرًا حين نتصور أن المؤامرة والتربص حول مصر تتجسد في الصهيونية وحدها، وأنها هي التي أنجبت التحرك الماسوني العالمي، فالمشهد أعقد من ذلك بكثير. الحقيقة أن الماسونية - كفكرة وشبكة وتنظيم - كانت القنطرة التي عبرت عن طريقها الصهيونية العالمية، والحاضنة التي سمحت بظهور ها، وقدّمت لها الأرضية الفكرية والمالية والتنظيمية التي مكّنتها لاحقًا من الانطلاق، أي أن العلاقة ليست علاقة أصل بفرع فقط، بل علاقة مشروع أكبر يُعيد إنتاج نفسه عبر أدوات متعددة، أحدها الصهيونية العالمية، وأخرى شبكات النفوذ الاقتصادي والإعلامي، وثالثة منظومات الوعي الزائف التي تُطرح اليوم تحت عناوين براقة مثل "التنمية"، و"الإخوة الإنسانية"، و"التعاون العابر للحدود".
ومن هنا نفهم لماذا تُحاصر مصر الآن بكل هذا الزخم...  لأنها الدولة التي لم تخضع يومًا لمعادلات الهندسة الخفية، والتي ظلّت دائمًا خارج القوالب الجاهزة التي صُنعت لإدارة المنطقة، ولأنها دولة يصعب ابتلاعها، ويصعب استبدال إرادتها بغير إرادتها، وهذا وحده كافٍ لتفسير حجم الضغوط والتحركات التي تستهدف مواردها، ووعي شعبها، ومفاصل قوتها الحقيقية.
هذا عهد الوطن.. وحق الأجيال... ومسئولية كل من يملك القلم والقرار. 
 

ads
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق