الإثنين 10/نوفمبر/2025 - 12:52 م 11/10/2025 12:52:08 PM
فى مدخل المتحف المصرى الكبير، حيث تقف الحضارة على أطراف الدهشة، وحيث تتجاور المومياء مع الفكرة، وقف شاب مصرى فى مقتبل العمر يرفع صوته بتلاوة القرآن الكريم كأنه فى مهمة إلهية لإنقاذ الزوار من خطايا التماثيل، يحاول جاهدًا أن يعلو صوته فوق صمت التاريخ، يردد الآيات بنغمة حماسية لا تخلو من شعور بالبطولة، وكأنه يقاتل فى معركة مقدسة ضد الأصنام، بينما الحقيقة أن ما أمامه ليس أصنامًا، بل شواهد على عبقرية الإنسان منذ آلاف السنين.
المشهد جاء غريبًا ومؤلمًا، كأن صوت الجهل قرر أن يتحدى التاريخ فى قلب المكان الذى يحتضن ذاكرة الإنسانية.
لم يكن الشاب مخطئًا فى قراءته القرآن، فآيات الله لا تُخطئ، ولكن خطؤه أنه لم يفهم أن لكل مقام مقال، وأن احترام قدسية الدين يعنى وضعه فى مكانه اللائق، لا استخدامه فى غير موضعه. تلاوة القرآن عبادة جليلة، لكن حين تتحول إلى وسيلة لإظهار الذات أو لتوبيخ الناس أو لافتعال بطولة أخلاقية، فإنها تفقد معناها المقدس وتتحول إلى مشهد عبثى مؤسف.
التدين ليس أن ترفع صوتك فى وجه الناس، بل أن ترفع نفسك عن الاستعراض، الدين فى جوهره علاقة صامتة بين العبد وربه، لا تحتاج إلى جمهور ولا تصفيق. حين يتحول الإيمان إلى أداء علنى يصبح أقرب إلى تجارة بضاعة لا إلى عبادة قلب، والتجارة بالدين- لمن لا يدرك- أخطر من التجارة بالمخدرات، لأن الأولى تفسد الضمير بينما الثانية تفسد الجسد فقط.
هذا الشاب الذى وقف يقرأ فى مدخل المتحف ليس سوى ضحية لزمن غاب فيه الفهم الحقيقى للدين وحضرت فيه مظاهر التدين الشكلى، هو نتاج سنوات من الخطاب الدينى المشوّش الذى علّم الناس أن الدين يُمارس بصوت عالٍ، وأن من لا يرفع صوته بالحق فهو ضعيف الإيمان، لم يقل له أحد إن الحق لا يتبلور بالصراخ، بل يظهر برفق، وأن الدعوة ليست فى رفع الصوت بل فى حسن المعاملة.
ربما ظن أنه ينصر الإسلام، بينما هو يقدم أسوأ إعلان عنه، فحين يرى السائح الأجنبى شابًا يصيح بالقرآن فى مدخل المتحف سيظن أن الإسلام دين صراخ، لا دين علم وثقافة وتاريخ، وهكذا يتم تشويه صورة الدين من حيث لا يحتسب صاحبها.
من المؤكد أن هذا الشاب لم يكن شريرًا، بل ساذجًا، ساذجًا إلى الحد الذى جعله يظن أن الله بحاجة إلى من يدافع عنه فى المتحف، غاب عنه أن الله، عز وجل، لا يتم الدفاع عنه بالصوت العالى، بل بالعقل النيّر، وبالخلق الحسن، وبأن تكون قدوة طيبة لمن حولك. الدين ليس فى الصوت المرتفع، بل فى السلوك الهادئ الذى ينشر الطمأنينة فى القلوب.
إن ما فعله هذا الشاب ليس حادثة عابرة، بل عَرَض لمرض اجتماعى أعمق، مرض المظاهر الدينية التى تملأ الشوارع وتغيب عن السلوك، نحن نعيش فى زمن صار فيه التدين واجهة اجتماعية، يُقاس بالملبس وطريقة الكلام وعدد المنشورات الدينية على مواقع التواصل، لا بالفعل ولا بالرحمة ولا بالإخلاص، صار بعض الناس يتعاملون مع الدين كما يتعاملون مع الموضة، يختارون منه ما يلفت الأنظار ويتركون جوهره الذى يزكى النفوس.
الدين برىء من كل ذلك، فالله لم يأمرنا بأن نكون أوصياء على الناس، ولا أن نحول العبادة إلى مظاهرة صوتية، الله أمرنا بأن نكون رحماء، أن نفهم ونحاور، أن نحب الخير للناس لا أن نخيفهم. حين يتلو أحدهم القرآن فى مكان عام دون مراعاة للسياق أو للناس من حوله، فإنه لا يُظهر الدين، بل يُخفى معناه الحقيقى تحت غطاء من الجهل.
ولنأخذ خطوة إلى الوراء ونسأل لماذا فعل هذا الشاب ما فعل؟
الإجابة أبعد من مجرد الحماس الدينى، نحن أمام ظاهرة تعيش فراغًا روحيًا وعقليًا، يبحث عن معنى لحياته فلا يجده فى التعليم ولا فى العمل ولا فى المجتمع، فيلجأ إلى الدين كوسيلة لإثبات ذاته، لكن دون علم ولا توجيه، فيتحول الدين فى وعيه إلى أداة لإثبات التفوق الأخلاقى على الآخرين، إنه يريد أن يقول أنا أكثر إيمانًا منكم، وهذه هى الكارثة الكبرى حين يتحول الإيمان من علاقة مع الله إلى وسيلة للمقارنة مع الناس.
ولو أن هذا الشاب قرأ التاريخ لعرف أن مصر لم تكن يومًا عدوة للدين، بل كانت موطنه الآمن، من معابد طيبة خرجت أولى الترانيم، ومن مدارس الإسكندرية خرج الفلاسفة الذين ربطوا الإيمان بالعقل، ومن الأزهر خرجت أنوار الفقه والعلم. مصر التى علّمت الدنيا كيف يكون الإيمان عميقًا بلا صخب، لا تحتاج إلى من يصيح فى بهو متحفها ليذكّرها بالله، فهى تعرف الله أكثر مما يعرفه من يصرخ باسمه دون وعى.
إن المتحف المصرى الكبير ليس مكانًا للغفلة، بل مكان للتأمل، وكل حجر فيه يشهد على عظمة الخالق قبل أن يُنحت وجه الملك. مَن يقف أمام تمثال رمسيس الثانى أو لوحة إخناتون أو نقوش المعابد لا يرى أصنامًا تُعبد، بل يرى عملًا فنيًا عظيمًا يدل على إبداع الإنسان الذى خلقه الله بقدرة على التفكير والجمال، فكيف يُعقل أن يأتى أحد ليحارب هذا الإبداع باسم الدين الذى أمرنا بالتفكر فى خلق الله؟
يجب أن ندرك أن احترام الدين يعنى احترام سياقه، وأن حب القرآن يعنى أن نحفظ مكانته فلا نستخدمه فى غير موضعه، القرآن ليس وسيلة للهيمنة على الناس أو لإحراجهم أو لإشعارهم بالذنب، بل كتاب هداية ورحمة، وما حدث فى المتحف كان إساءة للرحمة قبل أن يكون إساءة للآداب العامة.
نحن فى حاجة إلى ثورة فكرية داخل الخطاب الدينى، تُعيد الناس إلى المعنى الحقيقى للإيمان، أن تكون مؤمنًا يعنى أن تفهم، لا أن تصيح، أن تكون داعية يعنى أن تزرع الطمأنينة فى القلوب لا الخوف فى العيون، أن تحب الله يعنى أن تحترم خلقه، وأن تحسن التعامل مع الناس مهما اختلفوا عنك.
ذلك الشاب الذى تلا القرآن فى المتحف قد يغادره اليوم، لكن صدى صوته سيبقى تذكرة لنا جميعًا بأن نراجع أنفسنا، هل نعيش الدين حقًا أم نستعمله لأغراضنا؟ هل نعرف الإيمان أم نحاكيه شكليًا؟ هل نقرأ القرآن لنهتدى أم لنظهر فى المشهد؟
إن الدين فى حقيقته لا يُقاس بعلو الصوت ولا بطول اللحية ولا بكثرة الشعارات، بل بسلامة القلب وحكمة العقل، فالإيمان لا يحتاج إلى ميكروفون، بل إلى عقل يتدبر وقلب يصدق، والمتاحف لا تحتاج إلى دعاة، بل إلى زوار يعرفون أن كل حجر فيها يسبّح بحمد الخالق دون ضجيج.
فليت ذلك الشاب يعلم، وليتنا جميعًا نتعلم، أن الإيمان لا يُقاس بالصوت، بل بالسكينة. وأن القرآن، كتاب النور، لا يُتلى من أفواه الجهل، بل من قلوب تعرف قيمته.
فما أحوجنا اليوم إلى أن نصمت قليلًا، لعلنا نسمع صوت الله فى داخلنا، قبل أن نحاول إسماعه للآخرين.
















0 تعليق