من اللافتة إلى "الهاشتاج".. كيف أعادت مواقع التواصل الاجتماعي رسم المشهد الانتخابي؟

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم تعد الحملات الانتخابية تجرى فقط على أرض الواقع، بل أصبحت معارك متوازية في عالمين: الميدان الحقيقي والفضاء الافتراضي، فمن اللافتات الضخمة التي كانت تملأ الشوارع إلى "الهاشتاجات" التي تكتسح المنصات، تغيرت أدوات الخطاب السياسي والدعائي بشكل جذري، ليصبح الانتشار الإلكتروني اليوم أحد مقاييس القوة الانتخابية.

مع صعود منصات التواصل الاجتماعي كأقوى أدوات تشكيل الرأي العام، تحولت الانتخابات إلى ساحة رقمية مفتوحة، لم تعد الخطب والمؤتمرات وحدها قادرة على خلق التأثير، بل أصبحت الخوارزميات التي تتحكم فيما يراه المستخدمون جزءًا من المعركة نفسها، تحدد من يُسمع صوته أكثر ومن يتراجع إلى الهامش، ولهذا باتت الحملات الانتخابية تدار بمزيج من تحليل البيانات وقياس المزاج العام والتفاعل اللحظي مع الأحداث عبر فرق محترفة تعرف كيف تصيغ الرسائل وتستثمر اللحظة.

وتغيرت أيضًا طبيعة الخطاب الانتخابي، فلم يعد الناخب يبحث عن برنامج انتخابي مطبوع أو وعود تقليدية، بل عن قصة تروى قاصدة التأثير، المرشح الناجح هو من يقدم نفسه عبر محتوى إنساني أقرب للحياة اليومية، فيديو قصير من جولة ميدانية أو مشهد من حوار عفوي مع المواطنين أو منشور بسيط يعبر عن مبدأ، فتحولت الدعاية من إقناع مباشر إلى بناء علاقة وجدانية مع الجمهور، مدعومة بالصور والفيديوهات واللغة التي تخلق انطباعًا بالواقعية والقرب.

جزء من المشهد

ولم يعد المواطن متلقيًا صامتًا، بل أصبح جزءًا من المشهد نفسه، يشارك بالتعليق والمناقشة والمشاركة، فتتحول صفحته الشخصية إلى منبر لتفاعل الآراء المختلفة، وظهر ما يمكن تسميته بـ"التريند الانتخابي" الذي يقاس به الزخم والتأثير ويعكس اتجاهات الرأي العام، حتى وإن لم يكن دقيقًا مثل نتائج الصناديق، وبين المؤيد والمعارض والمشارك العفوي أو المنظم ولدت ساحة جديدة تصنع المزاج السياسي اليومي.
ورغم ما تشهده منصات الفضاء الإلكتروني من تنافس محتدم وصراع ناعم بين المرشحين، فإنه لا يمكن الجزم بأن حجم التفاعل أو تصدر "التريند" يعكس بالضرورة نتائج صناديق الاقتراع، فالعالم الرقمي مهما بدا صاخبًا يظل انعكاسًا جزئيًا للمزاج العام، تحكمه الخوارزميات وتؤثر فيه دوائر مغلقة من المتابعين، ولا يعبر دائمًا عن الخريطة الواقعية للناخبين على الأرض، فبعض المرشحين يحظون بانتشار هائل عبر الإنترنت دون أن يتحول ذلك إلى أصوات حقيقية يوم التصويت، والعكس صحيح.

كما أن جمهور مواقع التواصل الاجتماعي ليس نسخة مطابقة من جمهور اللجان الانتخابية، فالغالبية الرقمية تنتمي إلى شرائح الشباب والمتعلمين وسكان المدن ممن يملكون هواتف ذكية وحسابات نشطة، بينما تظل قطاعات واسعة من الناخبين الفعليين بعيدة عن هذا الفضاء، خصوصًا في القرى والمناطق الريفية، لذلك فإن ما يبدو "اتجاهًا عامًا" على المنصات قد يكون في الواقع صدى لفئة محددة أكثر نشاطًا في النشر والتعليق، وليس انعكاسًا حقيقيًا لتوازنات التصويت في الميدان.

ولم يقتصر التغيير على أدوات الخطاب فقط، بل امتد ليشمل خريطة الدعاية الانتخابية نفسها، فبينما لا تزال اللافتات والملصقات تشكل مظهرًا أساسيًا في الشارع المصري خلال موسم الانتخابات، وتعبر عن الحضور الميداني للمرشح ومدى قربه من دائرته، انتقل مركز الثقل الحقيقي في إدارة الحملات إلى المنصات الرقمية التي باتت تقود التفاعل وتحدد إيقاع الخطاب العام، صارت شركات إدارة الصفحات ومقدمو خدمات التسويق الإلكتروني والمصممون وصانعو المحتوى شركاء رئيسيين في المشهد الجديد، يتولون صياغة الرسائل وإدارة الحسابات وبناء الصورة الذهنية للمرشح في فضاء التواصل الاجتماعي.

لكن هذا التحول لا يعني تراجع صناعة اللافتات أو انتهاء دورها، بل أصبح حضورها الميداني مكملًا للحضور الرقمي؛ فاللافتة ما زالت قادرة على خلق انطباع مباشر في الشارع، تذكر الناخب بالمرشح وتضفي على الحملة ملمسًا واقعيًا يوازن الصورة الافتراضية.. ويظل الشكل العام للمدينة خلال الموسم الانتخابي بلافتاته وصوره وشعاراته جزءًا من ذاكرة الناخب المصري وإحساسه بالمشاركة، فيما أصبحت المنصات الرقمية الوجه الآخر لهذا الحضور في الفضاء الافتراضي.

وأصبحت الحملة الانتخابية مشروعًا رقميًا متكاملًا يبدأ من تصميم الهوية البصرية وينتهي بإدارة البث المباشر وتحليل مؤشرات التفاعل، وتبدلت طبيعة الإنفاق الانتخابي من لافتات تعلق على الجدران إلى إعلانات تبث على الشاشات، ليشهد موسم الانتخابات ازدهارًا لمهنة "صانع المحتوى" جنبًا إلى جنب مع "مهنة الطباعة" في مشهد يجمع بين الأصالة والحداثة وبين الميدان الواقعي والعالم الافتراضي.

وفي المشهد المصري الراهن، ومع موسم انتخابات مجلس النواب، يظهر بوضوح هذا المزيج بين الحضور الميداني والحملات الرقمية، كثير من المرشحين يديرون صفحاتهم بأنفسهم، يبثون فيديوهات من جولاتهم الانتخابية، يجيبون عن تساؤلات المتابعين في بث مباشر ويعرضون صورهم وسط المواطنين، بينما يعتمد آخرون على فرق إعلامية متخصصة تضع جداول للنشر وتتابع التفاعل لحظة بلحظة، الناخب بدوره أصبح أكثر وعيًا، يقارن بين الخطاب الرقمي والواقع، ويتابع المرشحين على المنصات قبل أن يلتقيهم في الشارع.

هذا التحول لم يغب عن الهيئة الوطنية للانتخابات التي أدخلت أبعادًا جديدة للرقابة تشمل متابعة الأنشطة الدعائية عبر الإنترنت، للتأكد من الالتزام بالقانون ومنع استخدام المنصات لبث الشائعات أو الإساءة للآخرين، إنها خطوة تعكس وعي الدولة بأن المعركة الانتخابية الحديثة لا تدار فقط داخل اللجان، بل أيضًا على الشاشات الصغيرة التي باتت جزءًا من المشهد الديمقراطي.

ومع أن هذه الأدوات الجديدة منحت فرصًا واسعة للوصول والتأثير؛ فإنها فتحت الباب أيضًا أمام التضليل وتزييف الوعي؛ فالأخبار الزائفة والمقاطع المفبركة قد تحدث ضررًا بالغًا إذا لم تواجه بالتحقق والوعي المجتمعي، وهنا يظل الإعلام المهني التقليدي هو صمام الأمان وضابط الإيقاع بين المعلومة الموثقة والمحتوى العابر.

لقد انتهى زمن اللافتة التي تتحدث عن المرشح من فوق عمود كهرباء، وجاء زمن الرسالة التي تصل بضغطة زر؛ لكن التحدي الحقيقي يبقى في الحفاظ على جوهر التجربة الديمقراطية وسط زحام المنصات، والتفريق بين الحضور الرقمي والوزن الحقيقي داخل صناديق الاقتراع؛ فالمسألة ليست صراعًا بين القديم والجديد، بل تطور طبيعي في أدوات المشاركة والتأثير في زمن صار فيه الوعي أهم من أي وسيلة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق