الخميس 06/نوفمبر/2025 - 11:17 م 11/6/2025 11:17:50 PM
إذا كان بعضُ أصحاب العمائم الكبرى يعتقدون بحقهم فى قيادة الشعوب وتوجيهها ونقدها ومحاسبتها، فهل تملك تلك الشعوب نفس الحق بعد أن سارت فى ركب هذه العمائم إلى نهاية الشوط وأدركت ما آل إليه هذا السير من حال؟ تتعاظم شرعية السؤال فى حالة شعوب الشرق الأوسط بعد ما آلت إليه أحوال هذا الشرق كما نشاهدها الآن.
(١)
بعد استقلال شعوب الشرق من نير الاحتلال العسكرى الأجنبى التقليدى، امتلكت العمائمُ زمامَ الأمور فى بعض أوطانها، فألقتْ بتلك الأوطان فى تيه صراعٍ ذاتى يشبه صراعات العصور الوسطى فى الشرق الإسلامى والغرب المسيحى. تحولت طوائفُ بعض شعوب الشرق إلى جماعات متناحرة انتهى بها إلى تقسيم بعض الأوطان إلى ما يشبه جزر منعزلة متصارعة وأجهض فكرة تكوين قوة وطنية مسلحة واحدة تتولى دفع الخطر عن تلك الأوطان. وبعد ما يزيد عن نصف قرن تحولت تلك الأوطان إلى ما يشبه ساحات تدريب عسكرى لقوى معادية.
وفى أوطانٍ أخرى قامت العمائم بدور طابورٍ خامس – أحيانا دون إدراك منها - عبر تثويرها للجماهير وتعبئتها لقضايا تبدو سامية الهدف ظاهرا لكنها كانت تصب فى صالح سحب تحمس تلك الجماهير لقضاياها الواقعية المجتمعية والوطنية.
وقامت عمائم أخرى بتوجيه شعوب دولها فى قضايا مجتمعية وجهة غير صائبة ترتب عليها خسائر اقتصادية وعلمية وتأخير دولها عن مواكبة التطور العصرى، مثل إصرارها على التداخل فى قضايا سكانية وعلمية مستحدثة وفنية وثقافية. وفى حالات ثالثة حاولت بعض العمائم الكبرى الاستخواذ على مساحات نفوذ جماهيرية مقتطعة من مؤسسات سياسية أو ثقافية فكبلت خطط الدول والحكومات النهضوية.
فى كل تلك الحالات استقوت العمائمُ فى الشرق الأوسط بحماية شعبوية قائمة على تبنى خطاب تعبوى يحيّد استخدام الشعوب لمفرداتها العقلية والبحثية والمعرفية.
(٢)
ترتب على تلك الممارسات فيما يقرب من نصف قرن أن أصبحت دول الشرق الأوسط منهكة داخليا إما بسبب الصراعات البينية المباشرة والتى صنعتها ودشنتها العمائم، أو بسبب انسياق الجماهير خلف ما تبنته تلك العمائم من رؤى.
بعض الدول أصبحت أجسادا مترهلة سكانيا لكنه ترهلٌ ضعيفٌ يعيق حركة الأوطان وخطط المؤسسات النهضوية بدلا من أن يعمل على تفعيلها وتنفيذها. وبعض الدول تحولت إلى كانتونات طائفية متنافرة بعد أن تشبعت أراضيها بالدم الحرام. وبعض الدول فقدت بالفعل استقلالها الوطنى واُقتطعت مساحاتٌ بالفعل من أراضيها. ودولٌ أخرى نجت من الفخ الكبير، لكنها لم تنجح تماما فى تحجيم مساحات تداخل العمائم فى الشأن العام بما يمثله ذلك من خطرٍ كامن محتمل للتنشيط فى أى وقتٍ قادم.
(٣)
كان العامان الأخيران هما أشبه باختبار شعوب الشرق ودولها لما أصبح أمرا واقعا بعد تلك العقود. بعض الدول سقطت فعليا لأنها فقدت فى العقود السابقة قدرتها على الصمود بعد أن أنهكتها العمائم. وبعضها عانى كثيرا من أجل إقناع شعوبها بصواب مواقفها كدولة وإقناع تلك الشعوب بعدم الانسياق خلف ما يمرره أصحاب العمائم من خطاب علنى أو مستتر مما يعارض موقف الدولة.
بعد أن برهنت الأحداث على صواب من أصاب وخطأ من أخطا، وبعد أن سقط من سقط، ونجا من نجا، وبعد أن هدأ قليلا ضجيج المعارك، وخفت حدة المواجهة، يصبح التوقف قليلا من أجل المحاسبة أمرا حتميا على الأقل من أجل تأمين مستقبل من نجوا!
وإذا كانت بعض القوانين المحلية فى بعض الدول تحصن المواقع القانونية لبعض أصحاب العمائم الكبرى، فإن فكرة المحاسبة الشعبية تظل قائمة ومشروعة تماما. وإذا كانت تلك المحاسبة لن تغير شيئا فى واقع الدول التى سقطت، فإنها تصبح أكثر طلبا وحتمية فى حالة الدول التى نجت بفضل المواقف الجماعية لشعوبها ومؤسساتها الصلبة. الآن يمكن أن أطالب بهذه المحاسبة الشعبية دون الوقوع تحت وطأة الاتهام بشق الصف! الآن يحق لى التساؤل..متى تحاسب شعوبُ الشرق – خاصة من حافظت على أوطانها – عمائمَها الكبرى على ما تم توثيقه لهذه العمائم فى ذروة الخطر الوطنى؟!
ولنأخذ من إحدى الدول الكبرى – التى نجت - فى المنطقة نموذجا لما حدث، ونموذجا لما اتخذته تلك العمائم عبر عامين من مواقف، وهى الدولة التى كانت صاحبة نصيب الأسد من المواجهة والاستهداف رغم أنها كانت أيضا صاحبة نصيب الأسد - كما وكيفا - فى الصمود وعدم التخلى أو الرضوخ وفى تبنى المواقف الثابتة القوية الشريفة.
(٤)
بعد بدء المشهد منذ عامين كانت تلك الدولة هى الأسرع فى كشف المخطط ورفضه بقوة. ورغم وضوح موقفها وقوته، فإن صاحب عمامة كبرى فى تلك الدولة فاجأ الجميع بأول موقف رسمى يعرّض ضمنا بدولته حين وضعها فى سلة واحدة تضم جميع الدول التى وصفها بالسقوط فى اختبار غزة!
وفى خلال عامين تراكمت مواقف وبيانات صاحب العمامة الكبرى وصُبغت تلك البيانات بصبغة سياسية صريحة توجب إخضاعها للتقييم بعيدا عن قداسة فكرة الدين.
كان التاريخ السابق لبعض المتورطين فى افتتاح مشهد السابع من أكتوبر منذ عامين يضج بمواقف عدائية ضد تلك الدولة. كان تاريخا غير مشرف أثار مشاعر غضب شعبية فى تلك الدولة. لم تراع مواقفُ هذه العمامة الشعورَ الوطنى حين تراكمت فى نعى هؤلاء المتورطين حين سقطوا فيما بادروا إليه من مشهد. أفاضت تلك المواقف والبيانات عليهم بصفاتٍ ساميةٍ صدمت مواطنى الدولة المقصودة.
ثم حين تم التصريح علانية من قوى كبرى باستهداف أرض تلك الدولة، فقد غابت المواقفُ الوطنية الصريحة المنتفضة ضد هذا الاستهداف من صاحب نفس العمامة. تراكمتْ المواقف الصادمة للمواطنين حتى أصبح الهمس تصريحا شعبيا صريحا على آلاف الصفحات الشخصية.
كان واضحا غياب فكرة الهوية الوطنية عن بيانات تلك العمامة مما ولد بعض مشاعر العتاب واللوم الوطنى المشروعة ضدها.
اختزنت الذاكرة الشعبية تلك المواقف وأضافتها لمواقفٍ سابقة منذ سنوات ليست بالبعيدة وقفت خلالها تلك العمامة الكبرى موقفا رافضا لأى دعاوى تجديد للفكر الدينى، ودافعت بقوة عن تراثٍ بشرى دينى متراكم تسبب فى أوجاع مجتمعية كبرى.
هذا النموذج هو الأوضح فى المنطقة لما يمكن أن تسببه العماماتُ الكبرى من ألم وطنى فى لحظات مفصلية من تاريخ شعوب الشرق...أن يرى شعبٌ عمامة كبرى من بنى جلدته تقف بعيدا عما يشعر به هذا الشعب... أن يرى شعبٌ يقدس ترابه الوطنى تلك العمامة مشغولة ومهمومة بقضايا شعبٍ آخر وأرضٍ أخرى بدعاوى تمثيلها الشعبوى الأممى لفكرة الدين.
(٥)
هذا النموذج يفتح الباب على مصراعيه لمناقشة هامة. ما هى المساحة الممنوحة لشعبٍ من شعوب الشرق لمحاسبة أصحاب تلك العمائم حسابا وطنيا خالصا؟
خاضت دول الغرب هذه المناقشة منذ قرون، وخلصت إلى تحجيم مساحات تداخل أصحاب القفاطين الكبرى فى الشأن العام، وفعّلت مبدأ ما للرب للرب وما لقيصر لقيصر. وترتب على ذلك أن نفضت تلك الدول عن كاهلها إرثا بشريا عتيقا اتخذ من هالة الدين حجابا لممارسة نفوذٍ غير مستحق. انطلقت تلك الدول بعد انتهائها فعليا من هذه المناقشة بخطواتٍ واسعة نحو الحداثة فى كل المجالات.
يروق للبعض فى دول الشرق أن يدافع عن مساحات نفوذ أصحاب العمائم تحت دعاوى براقة تبدو مقنعة للوهلة الأولى. ركيزة تلك الدعاوى أن الإسلام مختلفٌ عن غيره فى أنه دينٌ ودولة. وأن الدين فى الإسلام لا بد وأن يكون حاضرا فى كل مفردات الدولة.
أعتقد أن هذا الزعم به أخطاءٌ معرفية كبرى. أول تلك الأخطاء عدم الفصل بين الدين وبين رجال الدين، ومحاولة مزج الاثنين ككتلة واحدة تمنح الرجال قداسة الدين، فتصبح مواقفهم هى الدين ذاته الذى لا يجوز لأحدٍ معارضته حتى لو أتت تلك المعارضة من قبل متخصصين فى أى مفردة من مفردات الحياة كالعلم والفن والسياسة والرياضة والصحة وغيرها. فكرة الدين هى فكرة عامة، أما الاجتهاد البشرى فهو مختلفٌ حسب شخصية رجل الدين وثقافته وقناعاته وحسب الظرف القائم، لذلك فهو لا يجوز أن يكون مقدسا محصنا.
أما الخطأ الثانى فهو أن المقصود بشمولية الإسلام هو الجوانب الشخصية الأخلاقية التى يجب ألا تنفصل عن سلوك أى مسلم أثناء ممارسة عمله أو حياته، وهى مسألة تخضع للحساب الأخروى، أما فى ممارسة أى عمل فالقانون هو المقدس!
والخطأ الثالث هو خطأ قراءة التغيرات التاريخية السياسية قراءة غير صحيحة. فى فترةٍ ما كانت شرعية الحكم قائمة على فكرة الدين أو الدولة الواحدة الكبرى. وهذه فترة منتهية تاريخيا الآن، حيث أصبحت مصالح الدول والشعوب هى الحاكمة فى تحديد المواقف السياسية، كما أصبحت الشرعية السياسية مستمدة من الدفاع عن أرض الدولة دون أن يجرد ذلك الشعوبَ من دياناتها. فى هذه المرحلة الراهنة تتخذ معانى التضامن أشكالا أخرى دبلوماسية واقتصادية، دون أن تتطوع دولة ما برهن مقدرات شعبها أو قرارها العسكرى لصالح قضايا شعوب أخرى أو أراضى دولٍ أخرى. فى هذا المشهد يكون حتميا أن تتفق مواقف العمائم الرسمية الكبرى مع مواقف دولها فى وضوح وصراحة وقوة، خاصة فى لحظات الخطر. ويكون شطوح أى عمامة عن خط الدولة أو الإجماع الوطنى موقفا مستهجنا ومستباحا من ناحية النقد والمحاسبة.
(٦)
من الغريب فيما قدمتُه من مثال أن موقف صاحب نفس العمامة - فى مشهدٍ مماثل يخص نفس القضية منذ سنوات، وبعد فترة قصيرة من تولى منصبه بالتعيين فى ظل نظام حكمٍ سابق – كان مختلفا اختلافا جذريا عن موقفه الأخير بعد أن تغير البناء الدستورى القانونى للمنصب وأصبح بالانتخاب داخل هيئة دينية!
حين قرأتُ تصريحاته القديمة تلك وقارنتها بمواقفه الأخيرة أصابتنى دهشة شديدة. فهل تتغير الأفكار – التى من المفترض أن تكون منبثقة من قناعة دينية راسخة – حسب نظام الحكم القائم، وحسب شعور صاحب المنصب الدينى بتحرر منصبه من تدخل الدولة؟!
فى الموقف الأول تم الضغط الصحفى على صاحب العمامة للإدلاء بتصريحات تتعارض مع موقف الدولة وقتها فرفض ذلك بإصرار، وقال أن مؤسسته جزءٌ من الدولة ولا ينبغى أن تتبنى موقفا مخالفا لتلك الدولة، وأن تصريحاته لن تغير الواقع الذى يجب أن يُترك لأصحاب الشأن الرسميين! ما قاله يمثل حرفيا نفس المنطق الذى أوردتُه فى الفقرة السابقة عن خطأ قراءة المتغيرات التاريخية السياسية.
أما تصريحاته فى العامين الاخيرين فقد جاء معظمها غير متناغمٍ مع مواقف الدولة الرسمية، بل وصبّتْ معظمها فى اتجاه الضغط على الدولة فى الوقت الذى كانت تواجه فيه استهدافا عدائيا مباشرا! ألهذا الحد تسبب التغيرُ الدستورى فى كيفية وصول صاحب العمامة لمنصبه فى تغير مواقفه وبياناته ورؤيته لمنصبه ورؤيته للمواقف السياسية العامة؟!
(٧)
حسنا، إذا كان البنيان الدستورى الحالى فى بعض دول الشرق قد منح بعض أصحاب العمائم الكبرى حصانة ضد تدخل الدولة فى طريقة وصول أحدهم لمنصبه، فلماذا لا يتم تفعيل المحاسبة الشعبية الأدبية؟!
الشعبُ الذى عاصر هذه المواقف، وعاصر تلك التناقضات، لماذا لا يتوجه بخطابٍ محاسبى مباشر لصاحب تلك المواقف ويطالبه بالتنحى الطوعى عن هذا المنصب؟!
إذا كانت المجالس النيابية تملك الحق الدستورى لمحاسبة السلطة التنفيذية فى أى دولة، فللشعوب حقٌ أصيل فى محاسبة السلطة الدينية أو سلطة الإعلام أو أى سلطة يمنحها الدستور حصانة قانونية خاصة.
فلدى شعوب الشرق أرشيفٌ مكتظٌ لبعض كبار العمائم عما اقترفوه فى حق تلك الشعوب من تقييد لحريات الإبداع والعلوم والتأثير السلبى على اقتصاديات دولٍ ومعاداة الهوية الوطنية لدولٍ أخرى.
هذا الأرشيف فى إحدى تلك الدول يكتظ بمواقف أدت لانفجارٍ سكانى، وتعاظم الاقتصاد الموازى تحت راية أسلمة الاقتصاد، والتغرير بالآلاف من الشباب تحت زعم مناصرة الصحوة الإسلامية، ومحاولة شق الصف الوطنى عن طريق تنفير الشعب من ممارسات اجتماعية متسامحة، وإرهاق الدولة سياسيا فى مواجهات كبرى، واستعداء الشعب ضد شخصيته التاريخية المناصرة للفنون، وغيرها.
أليس من حق هذا الشعب تحديدا أن يقول كفى؟! وأن يعيد صياغة المساحات الشعبية الممنوحة لأصحاب العمائم للتدخل فى شؤونه؟!
أليس من حق هذا الشعب أن يبادر بإنقاذ مستقبل أبنائه وأن يدرك الحجم المعرفى الحقيقى لبعض أصحاب العمائم، وأن يدرك هذا الشعب أن هذا الحجم المعرفى لا يؤهل هؤلاء لقيادة ذلك الشعب؟!
وأخيرا أليس من حق هذا الشعب أن يعيد قراءة وتقيم مواقف هذه العمامة الكبرى طوال سنوات توليها منصبها وأن يطالبها بالرحيل؟!
أن الجزء الأكبر من خسائر وهزائم دول الشرق كان ذاتيا خالصا، وكان أصحاب بعض العمائم الكبرى مسؤلين بشكلٍ مباشر عن تلك الخسائر والهزائم بتمزيق التماسك الوطنى فى تلك الدول. وآن الأوان لشعوب الشرق أن تحفظ ما بقى من أوطانها وفى القلب من تلك الأوطان وطنى!
















0 تعليق