لم يكن أحد ليتخيّل أن مغنّى راب مغمور، كان يقدّم عروضه الصغيرة تحت اسم «السيد كارداموم»، سيصبح يومًا عمدةً لمدينة نيويورك. لكن زهران ممدانى فعلها، متغلّبًا على أندرو كومو، السياسى المخضرم والعمدة السابق للمدينة، ليصنع حدثًا غير مسبوق فى التاريخ الأمريكى؛ أول مسلم يتولى قيادة العاصمة الاقتصادية والثقافية للولايات المتحدة.
إنه انتصار لم يأتِ من قاعات السلطة، بل من نبض الشارع وشاشات الهواتف الذكية، حيث أدرك ممدانى كيف يخاطب الجيل الجديد بلغة بسيطة وذكية، محققًا معادلة بدت مستحيلة: سياسى صادق فى زمن الصور المصقولة. لقد تجاوز فوزه حدود السياسة إلى رمزية أعمق، انتصار الهامش على المركز، والجيل الرقمى على منظومة المال والإعلام.
لم يكن ممدانى يملك شبكة إعلامية ولا تمويلًا ضخمًا، بل اعتمد على ما يمكن تسميته بـ«قوة شاشة الموبايل»، مستفيدًا من اقتصاد الانتباه الذى أصبح العملة الجديدة فى السياسة الحديثة. وبينما أنفق منافسوه ملايين الدولارات على الإعلانات والحملات الدعائية، اختار هو طريقًا مختلفًا، هو التواصل المباشر مع الناس عبر المنصات الرقمية، بخطاب صادق يعكس واقعهم اليومى وهمومهم الحقيقية.
تحوّلت منصات مثل تيك توك وإنستغرام وتويتر «إكس» إلى ساحات انتخابية بديلة، بنى من خلالها قاعدة جماهيرية شابة ومتفاعلة تؤمن بأن السياسة يمكن أن تُدار من الهاتف لا من الأبراج العالية. وفى الوقت الذى اختار فيه خصومه مخاطبة الجمهور عبر الشاشات الكبيرة، كان هو يخاطبهم من الشاشات الصغيرة، يقترب منهم بلغتهم وهمومهم، فيكسب عقولهم وقلوبهم معًا.
لم تقتصر معركة ممدانى على منافسيه فى السباق الانتخابى، بل تجاوزت ذلك إلى مواجهة خصمٍ أكبر، هو الرئيس الأمريكى نفسه، الذى هدّد بأنه، فى حال فوز ممدانى، سيقطع التمويل عن المدينة، بل وقد يُنزل الجيش إليها. وبعد إعلان النتائج، كتب ترامب على منصته «تروث سوشال»: «الآن تبدأ المعركة».
كما انتقد دونالد ترامب خطاب فوز ممدانى، واعتبره «غاضبًا جدًا» و«بداية سيئة»، محذرًا إياه من مهاجمة الحكومة الفيدرالية، وداعيًا إلى التعاون مع واشنطن. ووصفه بأنه «اشتراكى متطرف»، متوقعًا أن تؤدى سياساته إلى هجرة سكان نيويورك إلى فلوريدا. ورغم لهجته الحادة، أكد ترامب أنه يحب نيويورك ويتمنى لممدانى النجاح، لكنه شدد على أن «البداية ليست مشجعة».
كما أثار فوزه غضب اللوبى الصهيونى بعد تصريحاته الصريحة التى وصف فيها نتنياهو بـ«مجرم حرب»، وتعهّده بالسعى لمحاسبته، ما زاد من توتر العلاقة مع إسرائيل وأشعل الجدل حوله أكثر فأكثر.
وقبل اغتياله، هاجمه الناشط اليمينى تشارلى كيرك بشراسة فى أحد برامجه، واصفًا إياه بأنه «طفيلى»، ومعتبرًا أن «الهجرة القانونية هى أيضًا المشكلة» فى وجوده بأمريكا، كما تلقّى ممدانى لاحقًا تهديدات بالقتل، ما كشف عن حجم الاستقطاب الذى أثاره صعوده غير المسبوق إلى المشهد السياسى الأمريكى.
تجربة ممدانى لا تُختزل فى عدد الأصوات، بل تمثل أسلوبًا جديدًا فى العمل السياسى؛ حيث لم تعد السيطرة الإعلامية أو الميزانيات الضخمة كفيلة بتحقيق النصر. وكان دائمًا يردد بفخر: «أنا مسلم، ومهاجر، وديمقراطى»، معتبرًا أن هويته مصدر قوة لا عبئًا.
لقد أدرك أن الجيل الجديد يعيش فى فضاء رقمى مفتوح، فاستبدل الخطابات الرسمية بالبثوث المباشرة من الشارع ولقاءات صادقة مع الناس، فبدا «واحدًا منهم» لا «سياسيًا فوقهم». يحمل هذا التحول دلالة أعمق على تبدّل المزاج الشعبى الأمريكى، الذى بات يميل نحو وجوه تقدمية تعبّر عن التنوع الحقيقى للمجتمع، كما يشير إلى نهاية عصر الهيمنة الإعلامية التقليدية، وبداية زمن يُصنع فيه الرأى العام عبر الهواتف الذكية لا عبر القنوات الفضائية.
فوز ممدانى لم يكن صدفة، بل نتيجة تغيّر قواعد اللعبة السياسية والإعلامية. لقد أثبت أن من يملك الهاتف الذكى يملك المستقبل، لأن قوة التأثير باتت فى الصدق والتفاعل لا فى الواجهة اللامعة. إنها قصة أول عمدة ينتصر بقوة التكنولوجيا على نفوذ الإعلام التقليدى، فاتحًا صفحة جديدة فى تاريخ الديمقراطية الأمريكية.
من الشارع إلى العمدة، ومن الشاشة إلى السلطة، هكذا صعد زهران ممدانى، أول عمدة مسلم يفوز بالإنترنت ويعيد تعريف معنى التأثير فى السياسة الحديثة.
من هذه الخلفية الفنية، وماضيه الفنى، ورحلته الصعبة نحو السياسة، وما ينتظره من ترامب.. فإن «جناب» عمدة نيويورك يستحق منا لقب «الكبير أوى!».
وُلد زهران ممدانى فى أوغندا، وترعرع فى كيب تاون بجنوب إفريقيا، قبل أن ينتقل مع أسرته إلى نيويورك وهو فى السابعة من عمره. التحق بمدرسة برونكس الثانوية للعلوم المرموقة، ثم واصل دراسته الجامعية ليحصل على درجة البكالوريوس فى الآداب من كلية بودوين.
ينحدر ممدانى من عائلة أكاديمية وفنية بارزة؛ فوالده هو محمود ممدانى، أستاذ العلوم السياسية فى جامعة كولومبيا، ووالدته ميرا ناير، المخرجة السينمائية الهندية المعروفة بأفلام مثل «ميسيسيبى ماسالا» و«زفاف مونسون».
قبل دخوله المعترك السياسى وتوليه عضوية المجلس التشريعى لولاية نيويورك، عمل ممدانى مستشارًا فى مجال الإسكان، كما خاض تجربة فنية قصيرة فى موسيقى الراب تحت الاسم الفنى «السيد كارداموم» (Mr. Cardamom)— وهى مرحلة لطالما استُخدمت من قِبل بعض منافسيه كأداة فى الحملات الانتخابية ضده.













0 تعليق