في زمنٍ كانت فيه البنادق تتكلم بلغة الخطر، اختار جان بول سارتر (21 يونيو 1905 باريس - 15 أبريل 1980 باريس) الفيلسوف والروائي الفرنسي أن يجعل من الفكر سلاحًا ومن الكلمة موقعًا للمقاومة.
في مثل هذا اليوم الموافق 22 أكتوبر عام 1964 رفض الأديب الفرنسي جان بول سارتر استلام جائزة نوبل في الأدب، فى الوقت نفسه سبق لسارتر أن أعلن عن موقفه الرافض للحرب العالمية الثانية، وذلك عندما أنضم إلى صفوف المقاومة الفرنسية السرية خلالها؛ وهوما نستعرضه فى السطور التالية:
لم يكن الفيلسوف الفرنسي الشهير يومًا من دعاة العزلة الفكرية أو من أولئك الذين يكتفون بالتأمل في صوامعهم، بل آمن أن الفيلسوف الحقّ هو من يعيش عصره ويصارع قضاياه. وهكذا، عندما اجتاحت قوات الاحتلال النازي فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، انخرط سارتر في صفوف المقاومة الفرنسية السرّية، محولًا فلسفته الوجودية من فكرة إلى فعل.
بدأت علاقة سارتر بالحرب مبكرًا؛ فبعد أن استُدعي للخدمة العسكرية عام 1939، أُسر على يد الألمان عام 1940 في معسكر بألمانيا، حيث قضى تسعة أشهر.
كانت تلك التجربة نقطة تحول حاسمة في وعيه، إذ أدرك خلالها هشاشة الإنسان أمام القوة، لكنه في الوقت نفسه لمس المعنى العميق للحرية التي لا تُمنح، بل تُنتزع. وبعد الإفراج عنه عاد إلى باريس، وهناك بدأ طورًا جديدًا من المقاومة، ليس بالسلاح، بل بالقلم والفكر.
في قلب العاصمة التي كانت ترزح تحت قبضة الاحتلال، أسس سارتر مع رفيقته سيمون دي بوفوار ومجموعة من المثقفين حركة سرية حملت اسم “الاشتراكية والحرية”، تهدف إلى توحيد جهود المثقفين في مواجهة الفكر الفاشي. ومع أن الحركة لم تستمر طويلًا بسبب صعوبة العمل السري وملاحقة أعضائها، إلا أنها شكّلت النواة الفكرية الأولى لمفهوم “المقاومة الثقافية”.
لم يكن سارتر مقاتلًا في الجبهات، لكنه كان يقاتل على خشبة المسرح. ففي عام 1943، كتب مسرحيته الشهيرة “الذباب” التي كانت – رغم طابعها الأسطوري – بيانًا رمزيًا للمقاومة ضد الاحتلال النازي، إذ جسدت فكرة الحرية في مواجهة الطغيان، وألهمت جمهورها بجرأة لم تكن تخفى على الرقباء الألمان.
وفي العام ذاته، نشر عمله الفلسفي الأهم “الوجود والعدم” ، الذي لم يكن مجرد بحث في حرية الفرد، بل كان دعوة ضمنية لرفض الخضوع لأي سلطة تقهر الإنسان أو تصادر إرادته.
كان سارتر يرى أن المثقف الذي لا ينخرط في قضايا مجتمعه يفقد مبرر وجوده، ولذلك تحولت كتاباته إلى ساحة مواجهة مع الاحتلال وأعوانه. استخدم المجلات الثقافية واللقاءات الأدبية كمنابر للوعي، مؤكدًا أن الحرية ليست شعارًا نظريًا بل مسؤولية يومية، وأن كل فعل صامت أمام الظلم هو شكل من أشكال التواطؤ.
كما شارك في توزيع المنشورات السرية التي كانت تبث أخبار المقاومة وتنشر رسائل الأمل للمواطنين الفرنسيين. ومع أن كثيرين لم يعلموا بدوره في حينه، إلا أن الوثائق اللاحقة أثبتت أن سارتر كان أحد العقول الفكرية التي ساهمت في بلورة خطاب المقاومة الوطنية.
بعد تحرير فرنسا عام 1944، لم يتوقف سارتر عند حدود الاحتفال بالنصر، بل راح يراجع موقع الفيلسوف من السلطة والمجتمع. واصل دفاعه عن الحرية في مواجهة كل أشكال القهر، سواء جاءت من الاحتلال أو من الأنظمة السياسية اللاحقة، مؤكدًا أن “الحرية مسؤولية ثقيلة، لكنها الثمن الوحيد للكرامة الإنسانية.”
لقد خرج سارتر من الحرب لا كمقاتل منتصر، بل كمفكر حمل على عاتقه مهمة تعريف جيله بما سماه “الالتزام” أي أن يعيش الكاتب في صميم قضايا عصره، وأن يتحمل نتائج أفكاره دون مواربة.
وفي كل ما كتب بعد الحرب، ظلّ صدى تلك السنوات واضحًا، من مسرحياته إلى مقالاته في مجلة "الأزمنة الحديثة" التي أسسها لاحقًا لتكون منبرًا للمثقفين المقاومين لكل أشكال الظلم.
0 تعليق