الموالد المصرية في عيون المستشرقين.. حين يصبح الاحتفال درسًا في الهوية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أثار احتفال مولد السيد البدوي بمدينة طنطا مؤخرًا جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما شهد حضورًا غير مسبوق هذا العام، ليعيد إلى الواجهة النقاش حول الظاهرة المولدية التي تشغل الباحثين في الاجتماع الديني والثقافة الشعبية منذ قرون.

5b2a2e1644.jpg

وفي هذا السياق، يبرز اهتمام المستشرقين بـ الموالد المصرية كأحد أهم المفاتيح لفهم الوجدان الجمعي للمصريين، حيث انشغل عدد من الرحالة والباحثين الغربيين بتوثيق وتحليل هذه الطقوس الشعبية، بوصفها مزيجًا بين الإيمان والاحتفال، وبين القداسة والحياة اليومية.

مكفرسون: الموالد مرايا للروح المصرية

في كتابه الشهير “الموالد في مصر”، قدّم المستشرق البريطاني "ج.و. مكفرسون" واحدة من أكثر الصور الاستشراقية عمقًا عن الموالد المصرية، مؤكدًا أن هذه الاحتفالات الدينية ليست مجرد تجمعات للذكر أو التبرك، بل هي تجسيد للروح المصرية التي تمزج بين العقيدة والفرح، بين الإيمان والحياة.

يقول مكفرسون في مقدمة دراسته: "المولد في مصر احتفال بالحياة نفسها، حيث يتجاور الدعاء مع الرقص، والقداسة مع البهجة"، وقد تنقّل الباحث بين مولد السيد البدوي بطنطا ومولد السيدة زينب بالقاهرة ومولد أبي الحسن الشاذلي بالصحراء الغربية، مسجلًا بدقة مظاهر الاحتفال، وأشكال التعبير الشعبي من مدائح وأناشيد وخيام وألعاب وأسواق.

ويرى أن المولد يمثل “ملتقى اجتماعيًا وثقافيًا ودينيًا” يضم فئات المجتمع كافة، من الفلاح البسيط إلى المثقف والشيخ والتاجر.

ورغم الطابع العلمي الذي اتسمت به ملاحظاته، فإن قراءة مكفرسون لم تخلُ من الدهشة الاستشراقية؛ فقد شبّه المولد بـ“مدينة مؤقتة من الضوء والضجيج”، لكنه أقرّ في الوقت ذاته بأن تلك المدينة تمثل “قلب الروح المصرية التي لا تهدأ”.

ويخلص في نهاية دراسته إلى أن الموالد تمثل “المدرسة غير الرسمية للمصريين، حيث يتعلمون المشاركة والكرم والبركة، ويعيدون اكتشاف ذواتهم في لحظة احتفال جماعي”.

10d850365b.jpg

إدوارد لين: المولد كوجه للحياة اليومية

لم يكن مكفرسون وحده من تناول هذه الظاهرة، فقد سبقه المستشرق البريطاني إدوارد لين في كتابه الشهير “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم” الصادر عام 1836، والذي يُعد من أوائل النصوص الغربية التي وثّقت الموالد في مصر بدقة أنثروبولوجية لافتة.

رأى لين أن الموالد تمثل جزءًا أصيلًا من الحياة الاجتماعية والدينية، حيث يتداخل فيها الاقتصاد بالدين، والتجارة بالكرامة، والمرح بالتبرك.

كما ربط بين الموالد والتصوف الشعبي، معتبرًا أن هذه الطقوس هي التعبير الأكثر حيوية عن الإسلام الشعبي المصري الذي يجمع بين الإيمان البسيط والموروثات القديمة.

bfb9f79520.jpg

كليمان هوارت: الموالد كاحتفالات شعبية ذات روح صوفية

ومن المستشرقين الذين توقفوا عند الظاهرة أيضًا "كليمان هوارت " في كتابه "الحياة الدينية في مصر"، حيث تناول الموالد بوصفها "لحظات اندماج بين الدين والفن الشعبي"، مشيرًا إلى أن المصريين في الموالد “يحتفلون بالله عبر الإنسان، ويجعلون من الوليّ مرآة للقداسة والبركة”.

ورأى هوار أن الموالد المصرية تشكل جسرًا بين الماضي والواقع المعاش، وأنها تمثل نوعًا من المقاومة الرمزية ضد التحولات الحديثة التي تهدد الروابط التقليدية داخل المجتمع.

تُظهر كتابات مكفرسون ولين وهوار وغيرهم من المستشرقين أن نظرتهم إلى الموالد تراوحت بين الانبهار الفولكلوري والتحليل الأنثروبولوجي.

ففي حين انشغلوا بمظاهر الطقوس والزحام والاحتفال، بقيت قراءاتهم أسيرة رؤى الخارج التي تنظر إلى المولد كـ"غرابة ثقافية" أكثر منه تعبيرًا عن إيمان شعبي متجذر.

على النقيض، جاءت دراسات مصرية لاحقة – مثل أعمال الدكتور سيد عويس وأحمد مرسي – لتعيد الاعتبار إلى المولد بوصفه ظاهرة اجتماعية وثقافية وروحية تعبّر عن وحدة المصريين في الزمان والمكان.

اليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على دراسات مكفرسون ولين وهوار، لا تزال الموالد قائمة رغم التغيرات الدينية والاجتماعية والسياسية.

لقد أصبحت تلك الدراسات وثائق ثقافية مهمة لفهم كيف نظر الغرب إلى روح مصر الشعبية، وكيف استطاع المصريون عبر الموالد أن يصنعوا ذاكرتهم الجمعية، حيث يلتقي الإيمان بالفرح، والبركة بالانتماء.

وهكذا، تبقى الموالد - في ضوء ما كتبه المستشرقون وما فسره الباحثون المصريون - ليست طقوسًا عابرة، بل ذاكرة حية للهوية المصرية التي تتجدد في كل موسم، وتثبت أن روح المصريين لا تزال تعرف طريقها إلى الفرح، حتى في أقدس لحظات التعبد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق