في لحظة ينتظرها العالم بشغف، ويترقبها المصريون بفخر واعتزاز، يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه رسميا في الأول من نوفمبر المقبل، ليصبح رمزا وطنيا جامعا يجسد هوية أمة تمتد جذورها لآلاف السنين.. ليس مجرد صرح أثري أو متحف ضخم.
هذا المشروع العملاق، الذي استغرقت عملية بنائه أكثر من عقدين من الزمن، يأتي ليعيد تعريف علاقة المصريين بتاريخهم، ويضع الثقافة في قلب الوعي الجمعي للأمة.
ولادة حلم وطني:
بدأت فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير مطلع الألفية، مع طموح أن تمتلك مصر صرحا يليق بعظمة حضارتها التي أبهرت العالم.. ولم يكن المشروع مجرد توسعة لمتحف قديم أو مبنى حديث، بل حلما وطنيا سعت الأجيال المتعاقبة لتحقيقه، ليكون واجهة مصر أمام العالم ومركزا لحفظ كنوزها الأثرية في بيئة علمية متطورة.
واليوم.. يقف المتحف شامخا على مرمى حجر من مقربة من أهرامات الجيزة، كأنه امتداد طبيعي للتاريخ، حيث يتجاور الماضي المجيد مع الحاضر الحديث في مشهد يجسد روح الاستمرارية المصرية الفريدة، ويعكس تصميمه المعماري المهيب، الذي يمزج بين الحجر الفرعوني والحداثة الهندسية، فلسفة مصر الأصيلة في جذورها والمتجددة في رؤيتها.
ولا يعد المتحف المصري الكبير مجرد مكان لعرض القطع الأثرية، بل هو جسر حضاري يربط بين الماضي والمستقبل، فمن خلال قاعاته الواسعة التي تضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، يسرد المتحف قصة الإنسان المصري منذ فجر التاريخ حتى العصور الحديثة، مقدما رؤية شاملة لتطور الفكر والإبداع الإنساني على أرض مصر.
ويعد الملك توت عنخ آمون أيقونة العرض الرئيسية، حيث تعرض مجموعته الذهبية الكاملة لأول مرة في مكان واحد، بعد أن كانت موزعة لعقود بين المتاحف والمخازن.
لا تمثل هذه المجموعة الأسطورية، التي اكتشفت عام 1922 بوادي الملوك بالأقصر، مجرد كنوز مادية لا تقدر بثمن، بل هي رمز للخلود والهوية المصرية التي قاومت الزمن واحتفظت ببريقها.
يمتد تأثير المتحف إلى ما هو أبعد من كونه مركزا أثريا؛ فهو مشروع ثقافي وإنساني في المقام الأول، يهدف إلى تعزيز الوعي بالتاريخ وتقديمه للأجيال الجديدة بأسلوب عصري يدمج بين التعليم والترفيه.
القاعات التفاعلية، وشاشات العرض الرقمية، وتجارب الواقع المعزز، كلها أدوات تربط زائر المتحف المصري الكبير بالحدث التاريخي وتجعله شريكا في الرحلة لا مجرد مشاهد.
وفي الوقت نفسه، يوفر المتحف مساحات للتأمل والفكر، وقاعات للندوات والمؤتمرات، كما يضم مكتبة متخصصة، ما يجعله مركزا معرفيا عالميا يربط الباحثين والطلاب من مختلف دول العالم بتاريخ الإنسانية الأولى.
رمز لوحدة الوجدان المصري:
في بلد كمصر، يختزن حضارات عدة وتنوعا ثقافيا ثريا وفريدا من نوعه، يأتي المتحف المصري الكبير ليكون رمزا للوحدة الوطنية.. فكل حجر وكل قطعة فيه تروي قصة من قصص المصريين على مر التاريخ، من الفلاح الذي بنى الأهرام إلى الفنان الذي نحت التماثيل، ومن الكهنة إلى العلماء، جميعهم ساهموا في صياغة هوية واحدة اسمها "مصر".
ويمثل افتتاح المتحف لحظة تلتقي فيها ذاكرة الأمة مع وجدانها، وتجد فيها الأجيال الشابة سببا جديدا للفخر والانتماء، فالمتحف ليس للأثريين أو الزوار فحسب، بل لكل مصري يرى في تاريخه مصدر قوة وإلهام لمستقبل أفضل.
وبمجرد افتتاحه سيصبح المتحف المصري الكبير أكبر وجهة ثقافية وسياحية في الشرق الأوسط، وقبلة لعشاق التاريخ من مختلف أنحاء العالم.. فهو يقدم تجربة متكاملة تجمع بين الجمال المعماري، والعرض الفني المبدع، والخدمات السياحية المتطورة.
كما أنه يعيد رسم خريطة السياحة الثقافية في مصر، بتكامل واضح بين المتحف ومنطقة الأهرامات، ليشكلا معا مركزا حضاريا عالميا يعيد إلى الأذهان المكانة التاريخية لمصر كعاصمة للثقافة والإنسانية.
يفتح المتحف أبوابه في لحظة فارقة من تاريخ مصر الحديث، ليقدم رسالة للعالم مفادها أن مصر لا تعيش على أمجادها، بل تبني عليها، فكما كانت مهد الحضارة القديمة، ها هي اليوم تصنع نموذجا حضاريا جديدا يزاوج بين الأصالة والمعاصرة، بين الهوية والانفتاح، وبين الذاكرة والتجدد.
وجدان أمة لا يموت:
المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى من الحجر والزجاج، بل حكاية وطن بأكمله، ومرآة لروح المصريين التي لا تنكسر.
في كل ركن من أركانه، تنبض الحجارة القديمة بالحياة، وتروي للعالم أن مصر، رغم تغير الأزمنة، ما زالت قادرة على أن تدهش، وأن تجمع أبناءها حول تراثهم، وأن تذكرهم دوما بأنهم أبناء حضارة لا تموت.
0 تعليق