في ظل الضغوط الاقتصادية المتصاعدة عالميًا، من ارتفاع أسعار الفائدة وتراجع السيولة في الأسواق الناشئة، تتبنى مصر نهجًا ماليًا ونقديًا متوازنًا يستهدف الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وخفض أعباء الدين العام، مع ضمان استدامة معدلات النمو في بيئة تمويل أكثر تعقيدًا.
وبالنظرالموازنة العامة للعام المالي 2025/2026 نجد أن الرسالة الأوضح بها هي أن إدارة الدين لم تعد مجرد أرقام في جداول مالية، بل أصبحت أداة استراتيجية لإعادة بناء الثقة وتحقيق المرونة المالية.
سياسة نقدية متحفظة لمواجهة التضخم
وأظهرت بيانات الموازنة أن البنك المركزي المصري واصل نهجه المتحفظ خلال العام المالي 2024/2025، من خلال الإبقاء على أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة لاحتواء التضخم والحد من تداعيات ارتفاع أسعار الفائدة العالمية.
وتشير التقديرات الواردة في الموازنة إلى أن متوسط سعر الفائدة على أذون وسندات الخزانة بلغ نحو 27.7% خلال العام المنقضي، مقابل 25% في التقديرات الأصلية، ما انعكس على زيادة مدفوعات الفوائد في الموازنة.
ورغم ذلك، بدأ البنك المركزي خفضًا تدريجيًا للفائدة منذ أبريل 2025، بالتوازي مع تراجع التضخم إلى 13.6% في مارس 2025 مقارنة بـ 33% في مارس 2024، وهو ما يعكس بداية استقرار نقدي قد يسمح بزيادة النشاط الاستثماري خلال الفترة المقبلة.
مخاطر محتملة واستجابة مالية مرنة
ورغم التحسن في مؤشرات التضخم، تبقى هناك مخاطر قائمة في حال ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا مجددًا، حيث تشير تقديرات الموازنة إلى أن كل زيادة بنسبة 1% في أسعار الفائدة ترفع مدفوعات الفوائد بنحو 45.8 مليار جنيه، كما أن كل زيادة بمقدار جنيه واحد في سعر الدولار أمام الجنيه تضيف نحو 94 مليار جنيه إلى رصيد الدين العام.
ولمواجهة هذه التحديات، تتحرك وزارة المالية بسياسة استباقية ترتكز على تنويع أدوات التمويل، وإصدار السندات والصكوك، إلى جانب التوسع في التمويلات الميسرة من الشركاء الدوليين، بهدف خفض تكلفة التمويل وتوزيع المخاطر على آجال زمنية مختلفة.
استثمار الأصول العامة كأداة لإدارة الدين
ضمن إستراتيجية الدولة لتقليل الدين العام، اعتمدت الحكومة على إدارة فاعلة للأصول المملوكة للدولة، من خلال صفقات تخارج مدروسة من بعض الأصول غير المستغلة، وذلك وفق ما أوضحته الموازنة العامة للدولة عن السنة المالية 2025/2026.
وتعد صفقة "رأس الحكمة" نموذجًا بارزًا لهذه السياسة، حيث جرى استخدام عائداتها في خفض الدين العام ودعم الاحتياطيات النقدية، بما يخفف الضغط عن الموازنة.
وتشير الموازنة الجديدة إلى استمرار الحكومة في هذا النهج إعتمادا على توسيع قاعدة الأصول القابلة للاستثمار، وتحقيق عائد مستدام من الأصول الإنتاجية بدلًا من الاعتماد على الاقتراض قصير الأجل.
ضبط مستويات الدين وضمان الاستدامة
تستهدف الموازنة العامة للعام المالي 2025/2026 تحديد سقف للدين العام لا يتجاوز 90% من الناتج المحلي الإجمالي، بما يضمن السيطرة على مؤشرات الدين وتحسين جودته الزمنية.
كما تركز الخطة على إعادة هيكلة آجال الدين، وتخفيض نسبة الدين قصير الأجل لصالح التمويل متوسط وطويل الأجل، ما يعزز من استدامة الوضع المالي للدولة.
وأكدت وزارة المالية أن هذا النهج يهدف إلى تحقيق الانضباط المالي دون المساس بمعدلات النمو أو الإنفاق الاجتماعي، من خلال توجيه الفوائض التمويلية للاستثمار في البنية التحتية والمشروعات الإنتاجية.
وبهذا الإطار المتكامل، تسعى الدولة إلى تحقيق معادلة صعبة تقوم على؛ خفض الدين العام دون كبح النمو الاقتصادي.
فالسياسات النقدية والمالية الحالية لم تعد تقتصر على إدارة الأزمة، بل تمضي نحو بناء منظومة مالية أكثر مرونة واستدامة، قادرة على مواجهة الصدمات وتحقيق التوازن بين كفاءة التمويل واستقرار الاقتصاد الكلي.
0 تعليق