النيل لا يعرف الصمت

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الأربعاء 15/أكتوبر/2025 - 12:40 م 10/15/2025 12:40:04 PM

قال الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمة شهيرة له إن «مصر لن تقف مكتوفة الأيدى أمام أى تهديد يمس أمنها المائى»، كان صوته يحمل تلك النبرة التى يعرفها المصريون جيدًا حين يتحول النهر إلى مسألة وجود، لا إلى ملف تفاوضى على طاولة مغلقة، لم يكن حديث الرئيس مجرد تصريح عابر فى مؤتمر للمياه، بل تلويح بحقيقة يعرفها الجميع أن الصبر المصرى الطويل مع إثيوبيا قد بلغ مداه، وأن القاهرة لم تعد ترى فى المراوغة الإثيوبية سوى عبث يهدد حياة أكثر من مئة مليون إنسان يعيشون على ضفتى النيل.
منذ أن بدأت إثيوبيا بناء سد النهضة عام 2011 وهى تُصر على أن السد مشروع سيادى خالص، لا حق لأحد فى مناقشة تفاصيله، وكأن نهر النيل ينبع من عزلتها الجغرافية، لا من قلب قارة تتشارك مياهها دول عديدة، ورغم أن مصر لم تعارض يومًا حق التنمية لأى طرف، فإنها كانت تطالب فقط باتفاق قانونى مُلزم يحدد قواعد الملء والتشغيل ويضمن ألا يتحول الطموح الكهربائى فى الهضبة إلى عطش فى دلتا النيل، لكن أديس أبابا، عبر حكومات متعاقبة، ظلت ترفض ذلك الإلزام وكأنها تريد أن تكتب القانون الدولى على مقاس طموحها السياسى.
على مدى خمس عشرة سنة من المفاوضات، تغيّر الوسطاء وتبدّلت المقاربات، وبقيت الحقيقة على حالها إثيوبيا تمضى فى السد منفردة، قامت فيها بملء الخزان أكثر من مرة دون إخطار مسبق، وفى كل مرة كانت القاهرة تحذّر وتناشد وتلوّح، بينما يعلو فى إثيوبيا خطاب يغذى الشك والخصومة ويجعل من فكرة التنمية فكرة للتحدى، اكتمل الخزان تقريبًا، واحتفلت أديس أبابا بافتتاحه، وكأنها تدشن استقلالها المائى بعيدًا عن الجغرافيا وعن المنطق فى آنٍ واحد.
لكن الواقع أكثر تعقيدًا من الشعارات، فالمخاطر التى تراها مصر والسودان ليست خيالات سياسية، بل أرقام وهندسة وهيدرولوجيا، خزان بقدرة تخزين تتجاوز 74 مليار متر مكعب يمكنه أن يحبس أكثر من كامل الحصة السنوية لمصر والسودان مجتمعين إذا أُدير بلا تنسيق فى سنوات الجفاف، قد يعنى قرار تشغيل أحادى للسد انخفاضًا فى تدفق النيل إلى مصر بما بين عشرة وخمسة عشر مليار متر مكعب، وهو ما يعادل فقدان أكثر من مليونَى فدان زراعى وانقطاع الكهرباء عن أجزاء من الشبكة القومية، وحين يتحدث الخبراء عن احتمال الفيضانات المفاجئة أو تذبذب مناسيب النهر نتيجة تفريغ غير منسق، يدرك الجميع أن الخطر ليس سياسيًا فحسب، بل مادى ملموس يمسّ حياة الناس وأمنهم الغذائى.
إثيوبيا فى المقابل تبرر كل ذلك بأنها تمارس حقها فى التنمية، وكأن التنمية لا تكون إلا على حساب الغير، تتحدث عن الكهرباء التى ستضىء القرى فى أقاليمها، وتتجاهل القرى المصرية التى قد يصيبها الظلام إن اختلت الموازين، ترفع شعار «لن يوقفنا أحد» وتتناسى أن النهر نفسه لا يعرف الحدود السياسية، ومصر التى عاشت آلاف السنين على ضفافه تعرف أن من يمسك بمصدر الماء يمسك بمفتاح الحياة، لكنها أيضًا تدرك أن القوة لا يمكن قياسها بجدران خرسانية بل بقدرة الدول على احترام شراكاتها ومواثيقها.
ومع كل جولة من جولات التفاوض كانت القاهرة تحاول إعادة إثيوبيا إلى طاولة الحوار، سواء عبر الاتحاد الإفريقى أو الأمم المتحدة أو الوسطاء الدوليين، لكن أديس أبابا تكتفى بإبداء حسن نية لفظى ثم تعود لتأكيد أنها لن توقع على أى اتفاق ملزم، هذا الإصرار على التفرد ليس مجرد سوء تقدير، بل مغامرة تهدد استقرار الإقليم كله.
السؤال الذى يشغل المراقبين اليوم هو ما الذى تستطيع مصر فعله؟ والجواب أن أدوات مصر ليست قليلة، فالقاهرة تمتلك شبكة دبلوماسية واسعة وقدرة على حشد الرأى العام الدولى، كما تملك أوراق ضغط اقتصادية وسياسية يمكن تفعيلها فى مؤسسات التمويل والتنمية التى تتعامل مع إثيوبيا، فوق ذلك هناك تحالفات إقليمية مع السودان ودول الجوار يمكنها أن تخلق طوق ضغط متدرج يدفع أديس أبابا إلى مراجعة مواقفها، لكن الأداة الأقوى تبقى فى الداخل، فى استثمار الدولة المصرية الهائل فى مشروعات التحلية وإعادة استخدام المياه وتحديث منظومة الري، بما يخفف من آثار أى نقص طارئ ويؤكد أن مصر لا تنتظر المنحة من أحد.
لقد أنفقت مصر، خلال الأعوام الخمسة الماضية، عشرات المليارات من الجنيهات على محطات التحلية، وعلى تحديث الترع والمصارف فى الدلتا، وعلى برامج ترشيد زراعى تستهدف تقليل الفاقد إلى أقل من 15% خلال السنوات المقبلة، إنها رسالة مزدوجة استعدادًا للمواجهة، ووعى بأن حماية النيل لا تعنى فقط الدفاع عنه سياسيًا بل إدارة كل قطرة منه بذكاء ووعى.
ومع ذلك يبقى الصوت السياسى حاضرًا بقوة، حين يقول مقام رئيس الجمهورية إن مصر لن تقف مكتوفة الأيدى، فهو لا يلوّح بالسلاح بقدر ما يذكّر بأن للصبر حدودًا، وأن حقوق الشعوب فى البقاء لا تُساوَم، الرسالة مفادها أن القاهرة ستستخدم كل أدوات الردع المشروعة القانون والدبلوماسية والتحالفات الدولية، وربما ما هو أبعد من ذلك إن اضطر الأمر، لأن قضية النيل بالنسبة للمصريين ليست بندًا فى مفاوضات، بل هى فصل من فصول التاريخ والهوية.
التاريخ يعلم أن مصر لم تكن يومًا دولة معتدية، لكنها أيضًا لم تعرف يومًا التهاون فى ما يتعلق بمصدر حياتها، من زمن الفراعنة حتى اليوم، ظل النهر هو القلب الذى يدق باسمها، ومع أن القاهرة ما زالت تراهن على العقل والحوار، إلا أنها تدرك أن التفاوض بلا التزام يشبه حوار الصدى فى الصحراء.
المرحلة المقبلة ستكون حاسمة، لأن السد الذى اكتمل افتتاحه دخل الآن مرحلة التشغيل الكامل، وهى أخطر المراحل من حيث التأثير المائى، كل قرار تفريغ أو حجز قد يترك أثرًا مباشرًا فى حياة الناس، وإن لم تُنشأ آلية واضحة للإنذار المبكر والتنسيق، فإن المنطقة كلها قد تواجه فصلًا جديدًا من التوتر يصعب التنبؤ بنهايته، لذلك فإن الكرة اليوم فى ملعب إثيوبيا، التى يمكنها أن تُثبت حسن نيتها بقبول اتفاق عادل وملزم يضمن حقها فى التنمية وحق الآخرين فى الحياة.
النيل لا يعرف الصمت، فحين يتم حبس ماؤه، سوف يتحدث بألسنة الناس والغضب والجفاف، ومصر التى علّمت العالم معنى الحضارة على ضفتيه لن تسمح بأن يُختزل وجودها فى حسابات سياسية ضيقة أو فى خطاب استعلائى يرفع شعار السيادة فوق القانون، إن بقاء النهر حرًّا ومتدفقًا هو ضمانة الحياة للجميع، أما الإصرار على التحكم فيه بمنطق القوة فهو دعوة مفتوحة للفوضى.
ولأن القاهرة تعرف قدر نفسها وقدر نهرها، فهى تمضى فى طريق مزدوج ترفع صوتها فى المحافل الدولية مطالبة بالعدالة، وتعمل فى الداخل على تأمين كل قطرة، وتحشد إرادتها الوطنية لتؤكد أن النيل ليس ملفًا تفاوضيًا بل قدر اختاره التاريخ لها، ومن يقرأ التاريخ يدرك أن مصر قد تصبر طويلًا، لكنها لا تستسلم أبدًا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق