منذ أكثر من قرنين من الزمان، نهض الكولونيل «جوزيف أنتيلمى سيف» «Joseph Anthelme Sève»، «١٧٨٨ - ١٨٧٢»، أو «سليمان باشا الفرنساوى»، كما عُرف فى زمانه، الضابط الفرنسى الذى أوكل إليه «محمد على باشا»، والى مصر، مهمة تأسيس الجيش المصرى الحديث، بتحديد معالم «نظرية الأمن القومى المصرى»، حينما صرَّحَ بأن «أمن الشام يبدأ من جبال (طوروس)، (السلسلة الجبلية التى تقع جنوب شرق منطقة شرق الأناضول التركية، وينحدر منها نهر الفرات إلى سوريا، وتستمر باتجاه الغرب مقتربة من البحر المتوسط)، وأمن جبال (طوروس) يبدأ من ممرات سيناء، وأمن القاهرة يبدأ من هذه الممرات. إن القاهرة هى مفتاح الشام، والشام مفتاح المنطقة»!
ومن هنا ينبع مصدر الاهتمام والقلق الذى استقبلت به الأحداث الأخيرة المواكبة لعملية الاجتياح الملغز من الجماعات الإرهابية المتطرّفة لـ«حلب الشهباء»، العاصمة الصناعية للدولة السورية، ثم تقدمها، بلا أدنى مُقاومة تُذكر، حتى تم لها إسقاط النظام، والاستيلاء على السلطة، ولا يرجع هذا التوجُّس إلى إدراكنا لإضرارها الجسيم بالمصالح الوطنية لسوريا وحسب، بل أيضًا لتأكدنا من أن هذه الخطوة الخطيرة تصيب، فى الأساس، مصالح مصر الوطنية وأمنها القومى بالضرر الجسيم، وهى التى أدرك «الجنرال سيف»، مُبكّرًا، ارتباطها الموضوعى، والعضوى، بوضع سوريا، واستقرارها، ومناعتها، وتماسك شعبها، وقُدرتها على مواجهة التحديات المحيطة.
وقد يستغرب البعض توقيت هذه الهجمة الإرهابية، والتى تبدو ضربة مفاجئة بلا مقدمات! لكن التمعُّن فى واقع المنطقة يشير إلى أن حدوثها جزء من خطة واضحة ومحدَّدة، ولعل استباقها بتهديدات رئيس وزراء الكيان الصهيونى «بنيامين نتنياهو» لدول وشعوب المنطقة، والتى أعلن فيها عن أن يد «إسرائيل» قادرة على الوصول لكل خصومها، وأنها ستغير خرائط المنطقة، وكذا فى غمار تهديدات الرئيس الأمريكى الجديد «دونالد ترامب» بأنه سيحول المنطقة إلى جحيم ما لم يتم إطلاق سراح الأسرى لدى حماس قبل توليه السلطة رسميًا الشهر المقبل، ما يوضح أن حركة جماعات الإرهاب على الجانب السورى لم تكن خطوة ارتجالية تمت عفو الخاطر، وإنما هى جزء من خطة مرسومة لتطويق دول المنطقة، وترويع دولها، ودفعها دفعًا لقبول الأمر الواقع.. واقع المهانة والانكسار أمام المشروع الإمبريالى الصهيونى، الزاحف لإنجاز عملية التطهير العرقى للشعب الفلسطينى لإجباره على الهجرة القسرية، والتسليم بالخضوع الكُلى لواقع «إسرائيل الكبرى».. (من النيل إلى الفرات) إكراهًا، على شعوبنا، والرضا بالاستعباد تحت سيف القوة الغاشمة الباطشة!
وهذا المشروع، مشروع الهيمنة والسيطرة، وتقويض الإرادة الوطنية، ليس بالأمر الجديد أو المخفى، ومن محطاته المعلومة: المؤتمر الصهيونى الأول «بازل ١٨٩٧»، ومؤتمر «كامبل بانرمان» للدول الاستعمارية الكبرى وتداولها بشأن سُبل الحفاظ على مصالحها فى منطقتنا «١٩٠٧»، ومؤامرة «سايكس- بيكو» لتمزيق وتقاسم ميراث الرجل المريض فى بلادنا «الإمبراطورية العثمانية» عام «١٩١٦»، ومشروع الاغتصاب الصهيونى لفلسطين، ومخططات «برنارد لويس»، وتحطيم الدولة العراقية،... إلخ إلخ، وكلها كانت تشير لذوى الوعى والبصيرة أننا أمام تَحَفُّز استعمارى مستمر للانقضاض على الفريسة المُنهكة، التى لم تُدرك إلّا قليلًا خطورة الإذعان لهذه المؤامرة الدائمة.. ولم تعد العُدّة لمواجهتها وكف أذاها.
لا يعنى هذا الأمر إعفاء النظام السورى السابق، وأنظمة عربية عديدة، من مسئوليتها فى تدهور الأوضاع فى بلادها حتى وصلت إلى هذا المستوى من التَرَهُّل والانكشاف والهزال، فى ظل غياب الحريات، والبطش بالرأى الآخر، وانتشار الاستغلال وشيوع الفساد،.. إلخ، الأمر الذى أوقعها فى هذا الشِّرك القاتل، وأعطى «المؤامرة» الفرصة لوضع أقدامها على الأرض، والتحرُّك تنفيذًا لأوامر وتعليمات الجهات المتآمرة، وهى فى «الحالة السورية» الولايات المتحدة الإمبريالية، وتركيا، والكيان الصهيونى، فضلًا عن أوكرانيا، التى رأت فى المشاركة فرصتها لإيلام العدو الروسى، وتوجيه ضربة مؤثرة له تحت الحزام، وجهات عربية أخرى «من بنى جلدتنا!»، وجميعهم تكالبوا على «القصعة السورية» لالتهام كل ما يمكن التهامه من لحمها الحى، ولتحويل الأرض السورية إلى مرتع لمرتزقة متطرفين من كل الأجناس: إيجور وتركمانيين وأفغان وباكستانيين،... إلخ إلخ!
والدرس الأساسى لنا ولكل العرب من محنة هذه «التراجيديا السورية» وأثمانها الباهظة، هو وجوب الانتباه إلى نوايا ومخططات الغرب الإمبريالى والكيان الصهيونى وأشياعهما فى المنطقة، والوعى بأن ممالأة هذا المُعسكر، وتصور أن الركون إلى وعوده وحمايته تُشَكِّلُ مصدرًا للاسترخاء ودافعًا للاطمئنان، وهمٌ لا يضمنه- ليومٍ واحد- ضامن، والأساس لتقوية مناعة الشعوب، هو الثقة فيها، والعمل على حل مشكلاتها، وتطوير أوضاعها، وإشعارها بأنها محترمة مُقدّرة، ورأيها مسموع، لأنها وحدها الدرع الصلدة القادرة على حماية الوطن.
والدرس الثانى هو وجوب الاتعاظ من نتائج قراءة الموقف الإيرانى والروسى فى التعامل مع نظام «بشّار الأسد» وهو يتداعى وينهار، فالمثل العربى الشهير يُعلمنا أن «ما حَكَّ جلدك مثل ظفرك»، فأيًا كانت طبيعة العلاقات مع الأطراف الخارجية، فهى لن تُحارب حربك، ويبقى أن قواك الذاتية، ومناعتك الخاصة، وقدرة الدولة وجيشها، وإمكاناتها الذاتية القادرة على حماية المصالح الاستراتيجية العُليا للبلاد، ومواجهة أعدائها بكفاءة هى، بالأساس، ركيزة الحماية ومكونها الثابت.
والدرس الثالث هو سقوط تقليد توارث السلطة وامتدادها إلى ما شاء الله فى البلاد العربية، ليست ذات النظام الملكى وحسب، وإنما نظم الدول الجمهورية كذلك.. ولدينا فى المشهد العربى واقعتان مشهورتان: قضية محاولات إعداد «جمال مبارك» لكى يرث والده، وهو الأمر الذى واجه رفضًا شعبيًا كبيرًا، ومتصاعدًا، انتهى إلى ما انتهى إليه. والثانى حكم «بشار الأسد» الذى انتهى إلى أخطر النتائج الكارثية فى التاريخ العربى المُعاصر.
فقد طُعنت وحدة التراب الوطنى السورى فى الصميم، ودُمرت مُقدَّرات الجيش السورى، بواسطة العدوان الصهيونى، تدميرًا كاملًا، وسيطرت جماعات إرهابية صنيعة للـ«سى آى إيه» و«الموساد»، والأمن التركى على واحدة من أهم الدول العربية، والتى تُمثل، كما أبرز «سليمان باشا الفرنساوى، وبوضوحٍ قاطع، جزءًا رئيسيًا من الأمن الجيو استراتيجى؛ يؤثر على سلامة؛ ومستقبل، واستقرار الوطن المصرى الغالى، الأمر الذى يقتضى أعلى درجات الانتباه والاستعداد، جيشًا وشعبًا، لكل الاحتمالات، مع الثقة الأكيدة فى قدرة وطننا- الذى كان دائمًا الصخرة التى تحطمت على صلابتها موجات العدوان- على مواجهة التحديات والتهديدات، وتوفير شروط المجابهة والانتصار.