سر الفوز فى الانتخابات:
«إنه الاقتصاد يا غبى»
لو كنت من «دونالد ترامب» لنشرت نعيا للأسرة المصرية التى قتلت برصاص الجيش فى المكسيك.
ما جرى لتلك الأسرة البسيطة صب فى مصلحته وزاد من عدد المقتنعين بعودته إلى البيت الأبيض.
أسرة صعيدية متوسطة من مدينة «أبو قرصاص» فى محافظة المنيا باعت كل ما تملك لتسافر إلى المكسيك.
لم تقصد بالقطع مشاهدة آثار حضارة «المايا» أو تناول شطائر «التاكو» أو السباحة فى جزيرة «كوزوميل» التى تطل على البحر الكاريبى.
سافر «سعد» وابنتاه (١١ و١٨ عاما) إلى جواتيمالا ومنها استلمتهم عصابة إجرامية متخصصة فى تهريب البشر إلى الولايات المتحدة وشحنتهم فى سيارة نقل للمواشى حشروا فيها آخرين من مصر والسلفادور وبيرو.
فى مدينة «تاباتشولا» الحدودية أطلقت دورية مكسيكية النار على السيارة بعد أن رفض سائقها التوقف فقتل ستة أشخاص من بينهم الفتاتان وشاب مصرى.
وصفت رئيسة المكسيك «كلوديا شينباوم» الحادث بأنه مأساة إنسانية يجب التوقف عندها لمعرفة أسبابها ودوافعها ومخاطرها.
أهم هذه الأسباب بالنسبة للمصريين هى أن الهجرة المتسللة إلى أوروبا عبر البحر المتوسط سدت منافذها وضربت عصاباتها ولم تعد ممكنة بعد دوريات المراقبة البحرية المتشددة على السواحل المصرية والليبية والتونسية.
فى الوقت نفسه بدأت العائلات المصرية التى طلبت اللجوء السياسى إلى الولايات المتحدة خوفا من «الإخوان» فى سنة حكمهم ترسل المال إلى ذويهم فى مصر ليلحقوا بهم من باب لم الشمل.
إن فى الولايات المتحدة اليوم خمسة ملايين مصرى هاجروا منذ عام ٢٠١١ بدعوى الاضطهاد الدينى وحرق كنائسهم وتهديد حياتهم ولكن ما إن خرج «الإخوان» من السلطة حتى سقطت حجة الاضطهاد الدينى ولم تعد سلطات الهجرة الأمريكية تأخذ بها.
لم يعد هناك أمام المصريين صدق أو لا تصدق سوى التسلل عبر الحدود المكسيكية الأمريكية بكل ما فيه من مخاطر تصل إلى حد الموت.
كل ٨ ساعات يقع حادث على الحدود المكسيكية الأمريكية بعد أن أصبحت الهجرة غير الشرعية واحدة من أهم القضايا فى الانتخابات الرئاسية القادمة.
ويلعب ببراعة بهذه الورقة الرابحة «دونالد ترامب» ولا يتردد فى إعلان حزنه على الضحايا الأبرياء الذين يموتون على الحدود ولكنه فى الوقت نفسه يشيد بكل رصاصة تطلقها قوات إنفاذ القانون على كل متسلل يحاول أن يجرب حظه أو لم يصدق أن الحلم الأمريكى أصبح وهما.
لم تترك قضية الهجرة غير القانونية رأس «ترامب» منذ أن كان رئيسا ونفذ فى عهده أكبر عملية ترحيل جماعى فى تاريخ الولايات المتحدة وصلت إلى مليون شخص حسب إحصائيات إدارة الهجرة.
يستند «ترامب» فى سياسة الهجرة إلى قانون يسمى «الأعداء الأجانب» الذى صدر فى عام ١٧٩٨ ويعد واحدا من أربعة قوانين تعرف باسم قوانين «الأجانب والفتنة».
تسمح هذه القوانين للسلطات بتجاوز الإجراءات القانونية الواجبة لترحيل العصابات الإجرامية وتحت هذا الغطاء يحدث الكثير من التجاوزات.
وتعهد «ترامب» بإعادة فرض قيود صعبة على طلبات اللجوء وأكد أنه سيعيد العمل ببرنامج «البقاء فى المكسيك» الذى أطلقه فى عام ٢٠١٩ وهو برنامج ينطبق أيضا على غير المكسيكيين.
وأعلن «ترامب» أنه سيعيد إحياء استخدام «الباب ٤٢» وهو قانون يسمح لضباط الحدود بطرد المهاجرين لأسباب صحية.
أكثر من ذلك قال: إنه سيمنع دخول من يتبنون وجهات نظر معادية مثل الفاشية والماركسية وكراهية إسرائيل.
وأخطر ما فى هذه القضية أن نسبة كبيرة من الأمريكيين يؤيدونه فيها ربما كانت أهم سبب لمنحه أصواتهم.
واللافت للنظر أن منافسته «كاميلا هاريس» تولت ملف الهجرة وهى نائب الرئيس ووعدت بالنضال من «أجل أمن حدودى قوي» ولكن الجمهوريين اعتبروا قراراتها ضعيفة بينما وصفها التقدميون من الديمقراطيين بالتشدد.
فى عام ٢٠٢٣ تعهدت بتقديم ٩٥٠ مليون دولار إلى شركات خاصة لتنمية مجتمعات أمريكا الوسطى.
أرادت مساعدة الفقراء ليبقوا فى أماكنهم ولا يتسللوا إلى الولايات المتحدة.
ودعم قانون أقره نواب الحزبين لتمويل دوريات أمنية إضافية على الحدود وإغلاقها فى حالة الزحام الشديد.
وما إن أعلنت أن قانون الهجرة «معطل» ويحتاج إلى إصلاح حتى أحرجها «ترامب» متسائلا: ولمَ لم تصلحيه وأنت فى السلطة؟
إن قضايا الإجهاض والمثلية الجنسية والمتحولين جنسيا لم تعد قضايا مهمة بعد أن أصبحت قضية الهجرة غير الشرعية على رأس القائمة والأكثر تأثيرا فى الانتخابات.
يزيد من أهميتها حالة الضعف الذى يعانى منه الاقتصاد.
ولا شك أن الاقتصاد هو ما يهم الناخب الأمريكى بالدرجة الأولى وسوف يختار من يتصور أنه سينعشه ويخفف من أعراض الأزمة التى أصابته فى سنوات رئاسة «جو بايدن».
سيختار من يخفض الضرائب ويحد من التضخم ويزيد من فرص العمل ويدعم نظام الرعاية الصحية.
«إنه الاقتصاد يا غبي»
هذه العبارة أشهر عبارة فى الانتخابات الأمريكية حتى ولو لم ينطق بها أحد.
استخدمت هذه العبارة على نطاق واسع فى عام ١٩٩٢ خلال الحملة الانتخابية الناجحة لـ «بيل كلينتون» ضد «جورج بوش» الأب الذى اعتبر المرشح الأقوى بسبب خبرته السياسية.
نجح «جورج بوش» الكبير فى إنهاء الحرب الباردة وحرب تحرير الكويت وتخفيض التوتر النووى بين واشنطن وموسكو والاتجاه الأمريكى شرقا نحو بكين ولكن ذلك كله لا يساوى بالنسبة للناخب الأمريكى خفض الضرائب واحد فى الألف فالشعوب تمشى على بطنها.
أطلق العبارة «جيمس كارفيل» العقل الاستراتيجى لحملة «بيل كلينتون» التى ركزت على إنعاش الاقتصاد بعد موجة الكساد.
حسب مجلة «الإيكونوميست» فى ٤ مايو ٢٠٢٤ فإن الحكومة الفيدرالية الأمريكية أنفقت ٢ تريليون دولار أى أكثر مما جمعت من الضرائب مما يعنى أنها لجأت إلى تعويض ذلك عبر المزيد من الديون والتوسع فى سياسة الاقتراض دون توقف.
وفى العام المقبل ربما يجد الرئيس الجديد نفسه أمام ديون صافية تتجاوز ١٠٠٪ من الناتج المحلى الإجمالي بزيادة ٥٠٪ فى العشر سنوات الأخيرة.
ولم ترتفع الديون فقط وإنما ارتفعت خدمتها أيضا بعد زيادة الفائدة من سعر قريب من الصفر (عام ٢٠٢٠) إلى ما يقرب من ٥٪ قبل نهاية عام ٢٠٢٤.
أصبحت خدمة الدين أعلى من الإنفاق على الدفاع الوطنى.
توسعت الولايات المتحدة فى الاقتراض وتحملت فوائد الديون لدعم إسرائيل فى حربها ضد غزة والضفة وجنوب لبنان والإنفاق على قواتها فى منطقة الشرق الأوسط حسب مبادرة «مشروع تكاليف الحرب» التى أطلقتها جامعة «براون» الأمريكية.
فى التقرير المنشور يوم ٩ أكتوبر عام ٢٠٢٤: «أنفقت الولايات المتحدة ما لا يقل عن ٢٢.٧٦ مليار دولار على الأسلحة والمعدات العسكرية المتصلة بالمنطقة حتى نهاية سبتمبر الماضى.
«هذا الرقم يتضمن ١٧.٩ مليار دولار من المساعدات الأمنية التى اعتمدت لإسرائيل وهو أعلى مبلغ تنفقه الولايات المتحدة على المساعدات العسكرية لإسرائيل فى عام واحد منذ عام ١٩٥٩ إلى جانب ما لا يقل عن ٤.٨٦ مليار دولار للعمليات العسكرية الأمريكية بما فى ذلك المعارك البحرية فى البحر الأحمر ضد القوات الحوثية».
«وأشار التقرير إلى أن هذه التقديرات محافظة مما يعنى أن المبالغ الفعلية قد تكون أعلى من ذلك بكثير ولا تشمل كل أشكال المساعدات المالية المقدمة».
لكن حسب تقرير «أنتونى زورشر» فى هيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سي) فإن مجلس الشيوخ الأمريكى وافق يوم ٢٤ إبريل ٢٠١٢ على حزمة مساعدات خارجية بقيمة ٩٥ مليار دولار تشمل تقديم دعم عسكرى لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان يخص إسرائيل منها ٢٦.٤ مليار دولار.
«وجاء الاقتراض السخى لدعم إسرائيل على الرغم من نسبة البطالة التى سجلت ٤٪ لأطول فترة لها منذ نصف قرن».
فى الوقت نفسه تسببت أسعار الفائدة فى تراجع الاستثمارات الخاصة مما ضاعف من احتمالات زيادة نسبة البطالة وهو ما يزيد من حماس الناخب الأمريكى للإجراءات التى يدعو إليها «ترامب» لمنع الهجرة غير الشرعية.
لكن ما أصاب الشعب الأمريكى كله بلا استثناء فكان التضخم الذى كان وصل إلى أعلى معدل له منذ عشرين سنة.
والحقيقة أن سنوات حكم «ترامب» شهدت انتعاشا اقتصاديا رفعت من شعبيته لكن سوء إدارته لوباء «كوفيد ١٩» الذى أودى بحياة ٢٠٠ ألف أمريكى أفقده الكثير من الشعبية التى جناها.
يلعب «ترامب» بورقة الاقتصاد الرابحة.
يحاكم منافسته على مسئولية حزبها ورئيسها على ما تعانيه الولايات المتحدة من كل أعراض الحمى الاقتصادية.
وحتى فى السياسة الخارجية يدعو إلى تخفيض المساعدات العسكرية الخارجية وربما لن يدعم أوكرانيا بالحجم نفسه الذى تناله وإن صعب عليه أن يرفض طلبا لإسرائيل التى أعلن ثلاث مرات متتالية أنه يحبها وأن حفيده يهودى.
ولن يقبل ترامب استمرار دعم حلف الناتو أو كوريا الجنوبية حسب مبدئه:
إن من يريد حمايتنا عليه أن يدفع لنا.
لهذه الأسباب تبدو فرص «ترامب» أكبر.
يبدو طريق عودته إلى البيت الأبيض أقصر من طريق منافسته.
فهو فى النهاية «بيزنس مان» لا يؤمن إلا بمعادلة واحدة: كيف تجنى الربح وكيف تتجنب الخسارة؟
إنه الاقتصاد يا غبى.
تراجعت قضية الإجهاض والمثلية الجنسية وتقدمت قضية الديون والبطالة وسعر الفائدة
إنفاق بايدن ٩٥ مليار دولار على حربى إسرائيل وأوكرانيا سيعيد كاميلا هاريس إلى بيتها وحيدة
بايدن