الشهداء الذين يسقطون في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت على ايدي الغدر والبربرية هم أغلى ما يمكن أن يقدّمه وطن على مذبح التضحية بأبعادها الروحية والوطنية. كان يُقال بأن الجمرة لا تحرق سوى المكان الذي تقع عليه، إلاّ أن هذه الجمرة الحارقة تكاد تمحو بنار حقدها ما تبقّى لنا من رائحة أحبّة ستبقى ذكراهم شواهد على أن الحقد مرّ بقرانا. فلا أغلى من فلذات الأكباد، الذين ترعرعوا وكبروا مع كل "شبر نذر". يؤلمني جدًّا عندما أسمع وأقرأ عن أعداد الشهداء الذين يتساقطون كل يوم كأوراق شجر الخريف. وما يؤلمني يؤلم كل لبناني أينما كان، وإلى أي فريق سياسي انتمى. وهذا الألم الموحَد والموحِد للمشاعر التي شهدناها بالأمس في رشعين نراها اليوم في كل بلدة لبنانية تستضيف عددًا من أهلنا النازحين، الذين تبلسم جراحهم لمسة إنسانية صافية معبّرة وصادقة.
فلا أصعب من فقدان الضنى على قلب الأم سوى العيش من دون أن تشبع من ضمّه وشمّ رائحته. هذا الشعور بالألم خبرته أمهات كثيرات على مدى سنوات الحرب القذرة والعبثية، التي حصدت بهمجيتها خيرة الشباب من كل الطوائف والأحزاب في ساحات الوغى. فمن سقط لن يُعوض غيابه أي شيء آخر حتى ولو كان سقوطهم في كثير من الأحيان عبثيًا، وإن كان ايماننا المسيحي يقودنا إلى الاستنتاج بأن حبة الحنطة إن لم تمت وتدفن في الأرض لن تثمر بدلًا من الحبّة مئات من حبات القمح.
ومع كل شهيد يسقط يتهاوى منزل. ومع سقوط كل منزل تندثر ذكريات عمرها من عمر الطفولة. أوليس أجمل تعبير جبلي عمّا يجيش في القلوب من عاطفة تجاه الآخر عندما يُقال له "يا بيتي"، مع ما لهذا التعبير من رصف لحجارة مباركة مع عتباتها المشغولة بأزاميل لا تزال تحفر أصواتها في ذكريات لا تُطوى إلا عند آخر زفرة.
يوم كان والدي، رحمات الله عليه، يمسك بإزميله بيده السمراء ليقصّب الحجارة العرسالية البيضاء، كانت تتراقص في مخيلتي تلك المنازل المرصوفة كحجارة الداما على طرقات ضيعتنا، التي سبق أن جرفها الحقد الأعمى والجهل. فكم استلزم صقلها من وقت وتعب وعرق. وكم استغرق تشييدها حجرًا فوق حجر من صبر وعناية ومهارة. فمع كل حجر كان "يشقع" فوق حجر آخر كانت القلوب تزداد خفقًا إلى أن يكتمل عقد البيت، وإلى أن يصبح له سقف يأوي ساكنيه من حرّ الصيف ومن صقيع الشتاء. وفيه تتراكم الذكريات والخبريات وحكايا الكبار عن زمن العزّ والبطولة وما فيها من "تمليح" و"تبهير" أمام مواقد لا تنطفئ نارها ولا يخبو نور قنديلها.
صحيح أن قريتنا التي محيت عن "بكرة أبيها" قد أعيد بناؤها، ولكن ليس إلى الأجمل، مع أن العمارة الحديثة المعتمدة على هندسيات متطورة تقنيًا قد تبدو أجمل مما كانت عليه في السابق، ولكنها خالية، يا للأسف، من الذكريات، ومن أصوات الشغيلة تردّد مع وديع الصافي "عمّر يا معلم العمار وعمّر حارتنا"، أو على أصوات السيدة فيروز "عمّرها بايدين تعلي بسواعد، بالمجد والقصد المارد".
هل يعرف ذاك الذي يطلق صاروخه الأعمى على البيوت التي تتهاوى في الجنوب والبقاع والضاحية بثوانٍ كم استلزم بناؤها من جهد وتعب وعرق وتجميع القرش بالقجة والخير والبركة؟ وهل يعرف ذاك الذي يمسك بحبل المدفع كم "دعوة" تنزل على رأسه مع كل طلقة صاروخية؟
هم أولادنا أغلى ما في الوجود. هي منازلنا، هي ديارنا، هي قرانا، هي كل ما تبقّى لدينا من مقتنيات هذه الدنيا. هي تلك الأحضان الدافئة التي تستقبل من دون أن تطلب في المقابل أي شيء. هي تلك النخوة التي ستعيد بناء ما تهدّم، وتحفظ في القلوب ذكرى الذين غابوا.
Advertisement
ومع كل شهيد يسقط يتهاوى منزل. ومع سقوط كل منزل تندثر ذكريات عمرها من عمر الطفولة. أوليس أجمل تعبير جبلي عمّا يجيش في القلوب من عاطفة تجاه الآخر عندما يُقال له "يا بيتي"، مع ما لهذا التعبير من رصف لحجارة مباركة مع عتباتها المشغولة بأزاميل لا تزال تحفر أصواتها في ذكريات لا تُطوى إلا عند آخر زفرة.
يوم كان والدي، رحمات الله عليه، يمسك بإزميله بيده السمراء ليقصّب الحجارة العرسالية البيضاء، كانت تتراقص في مخيلتي تلك المنازل المرصوفة كحجارة الداما على طرقات ضيعتنا، التي سبق أن جرفها الحقد الأعمى والجهل. فكم استلزم صقلها من وقت وتعب وعرق. وكم استغرق تشييدها حجرًا فوق حجر من صبر وعناية ومهارة. فمع كل حجر كان "يشقع" فوق حجر آخر كانت القلوب تزداد خفقًا إلى أن يكتمل عقد البيت، وإلى أن يصبح له سقف يأوي ساكنيه من حرّ الصيف ومن صقيع الشتاء. وفيه تتراكم الذكريات والخبريات وحكايا الكبار عن زمن العزّ والبطولة وما فيها من "تمليح" و"تبهير" أمام مواقد لا تنطفئ نارها ولا يخبو نور قنديلها.
صحيح أن قريتنا التي محيت عن "بكرة أبيها" قد أعيد بناؤها، ولكن ليس إلى الأجمل، مع أن العمارة الحديثة المعتمدة على هندسيات متطورة تقنيًا قد تبدو أجمل مما كانت عليه في السابق، ولكنها خالية، يا للأسف، من الذكريات، ومن أصوات الشغيلة تردّد مع وديع الصافي "عمّر يا معلم العمار وعمّر حارتنا"، أو على أصوات السيدة فيروز "عمّرها بايدين تعلي بسواعد، بالمجد والقصد المارد".
هل يعرف ذاك الذي يطلق صاروخه الأعمى على البيوت التي تتهاوى في الجنوب والبقاع والضاحية بثوانٍ كم استلزم بناؤها من جهد وتعب وعرق وتجميع القرش بالقجة والخير والبركة؟ وهل يعرف ذاك الذي يمسك بحبل المدفع كم "دعوة" تنزل على رأسه مع كل طلقة صاروخية؟
هم أولادنا أغلى ما في الوجود. هي منازلنا، هي ديارنا، هي قرانا، هي كل ما تبقّى لدينا من مقتنيات هذه الدنيا. هي تلك الأحضان الدافئة التي تستقبل من دون أن تطلب في المقابل أي شيء. هي تلك النخوة التي ستعيد بناء ما تهدّم، وتحفظ في القلوب ذكرى الذين غابوا.