السقف التصعيدي لتوم براك: ماذا بقي من المبادرة الأميركية؟

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
منذ زيارته الأخيرة إلى بيروت، تغيّرت "نبرة" المبعوث الأميركي الخاص إلى لبنان وسوريا، توم براك، 180 درجة إن صحّ التعبير. فالرجل الذي أبدى إيجابية لافتة في زياراته السابقة، وعكس خطابه مرونة معبّرة في التعامل مع المستجدات، وتفهّمًا لما توصَف بالحساسيّات الداخلية، مشيدًا تارة بالحكومة اللبنانية، ومنوّهًا تارةً أخرى بالردود الرسمية على الورقة التي أطلِق اسمه عليه، تحوّل فجأة إلى الهجوم على من كان يدعمهم.

Advertisement

 
شيئًا فشيئًا، ارتفع سقف خطاب براك إلى حدّ "التطرف في الموقف" إنّ صحّ التعبير ضدّ لبنان، الذي وصفه في آخر تصريحاته مثلاً بـ"الدولة الفاشلة"، فضلاً عن التلويح بأن واشنطن لن تنخرط أكثر في "وضع تتحكم فيه منظمة إرهابية أجنبية ودولة فاشلة"، مع تأكيده أنّ بلاده ستقف إلى جانب "حليفتها" تل أبيب إذا قرّرت توسيع عملياتها ضد لبنان، ربطًا بملف سلاح "حزب الله"، وهو المفترض أن يكون "وسيطًا" بين الإثنين.
 
هذا التحوّل في النبرة، الذي ترافق مع تحذيره المتكرّر من "تحرك إسرائيلي لنزع سلاح حزب الله" إذا لم يتحرّك لبنان سريعًا لحصر السلاح،يطرح أسئلة حول حقيقة الموقف الأميركي: هل نحن أمام مبادرة سياسية لا تزال قابلة للحياة، أم أمام إنذار أخير يضع لبنان بين خيارين أحلاهما مرّ؟ ما هي أبعاد هذا التصعيد الكلامي؟ وكيف يقرأه الداخل اللبناني، بين تفسيره كرسالة غضب من شلل الحكومة، واعتباره ضغطًا يضاف إلى سلسلة الضغوط التي يتعرّض لها؟
 
من دعم الحكومة إلى وصم الدولة بالفشل
 
في زياراته الأولى إلى بيروت، كان واضحًا حرص براك الذي كان يقدَّم في الكواليس، بوصفه "مهندس المبادرة الأميركي"، على دعم الحكومة اللبنانية، والإشادة بما اعتبره "استعدادًا لتحمّل مسؤولية حصر السلاح بيد الدولة". لكنّ ما يمكن اعتباره "خللاً في التوازن" بدأ تحديدًا حين قال براك إنه لا يستطيع أن يفرض على إسرائيل تقديم "ضمانات أمنية" للبنان، ما بدا حينها وكأنه إعادة تعريف غير معلنة للمبادرة، بمعنى الضغط على لبنان لتقديم التزامات سياسية وأمنية، مقابل وعود بأن "تأخذ واشنطن مصالح لبنان في الاعتبار".
 
مع مرور الأيام، انتقل خطاب براك من لغة "التشجيع" إلى لغة "التحذير"، بل تبنّي الخطاب الإسرائيلي إلى حدّ بعيد. ففي مقابلات وتصريحات لاحقة، حذّر براك من أنّه "لم يعد هناك وقت أمام لبنان"، وأنّ إسرائيل "قد تتحرك لنزع سلاح حزب الله"، داعيًا إلى حصر السلاح سريعًا، ومعتبرًا أنّ "من غير المعقول ألا يكون هناك حوار بين البلدين"، لتشكّل إطلالته خلال "حوار المنامة" الذروة، بوصفه لبنان بأنه "دولة فاشلة"، وصولاً لحدّ القول إن "الدولة هي حزب الله".
 
في القراءة الأولى، تعكس هذه العبارات مستوى غير مسبوق من الاستياء الأميركي من أداء الحكومة الذي لم يلبّ على ما يبدو "تطلّعات" واشنطن إلى إنهاء ملف السلاح، خصوصًا بعدما لمست "مماطلة" في الذهاب إلى أيّ خطوات ملموسة. لكن في القراءة الثانية، تبدو المفارقة أوضح: واشنطن تقول للحكومة التي سبق أن دعمتها إنها باتت في موضع المساءلة، لا الشراكة؛ وإنّ استمرار المراوحة في ملف "حصر السلاح" سيُترجم مزيدًا من الضغط.
 
لبنان الحلقة الناقصة
 
في موازاة "التشدّد" الذي طبع لهجته تجاه لبنان، يمكن الحديث عن مفارقات عديدة في خطاب توم براك، منها حرصه مثلاً على تقديم صورة مغايرة تمامًا عن سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، حيث يحرص دومًا على الإشادة بما يسمّيه "التطورات الإيجابية" في دمشق، وينوّه بالرئيس أحمد الشرع، كما غيره من المسؤولين الأميركيين، الذين لا يتردّدون في إطلاق "نوع من المقارنة" بين أداء الأخير، والمسؤولين في لبنان، رغم كلّ الاختلافات.
 
بهذا المعنى، لم تكن جملة "لبنان الدولة الوحيدة التي لا تصطف مع التحولات الجديدة" في كلام براك عابرة. ففي منطق كثير من المحللين، هو يعلن بصورة غير مباشرة أن المنطقة تدخل مرحلة إعادة تموضع واسعة: سوريا "المعاد تدويرها" تتقدّم نحو تعاون أوثق مع واشنطن، فيما تمضي دول أخرى في مسار التطبيع مع إسرائيل الذي تريد إدارة الرئيس دونالد ترامب إعادة إطلاقه؛ ولبنان، بكل تعقيداته، يبدو الحلقة الناقصة في هذا البناء الإقليمي الجديد.
 
من هنا، يذهب تفسير لبناني واسع إلى أنّ ما تريده الولايات المتحدة عمليًا ليس فقط تطبيق القرار 1701 بحرفيته، بل جرّ لبنان إلى "محور التطبيع" بأدوات مختلفة، منها ملف الحدود والسلاح عبر ربط حصر السلاح بمسار تفاوضي مع إسرائيل، والضغط المباشر على الدولة اللبنانية، حتى إنّ هناك من يلفت إلى أنّ واشنطن لم تتلقّف "مبادرة" الرئيس جوزاف عون الأخيرة، بدليل ما بدا "تهكّمًا" في كلام براك حول رفض لبنان مبدأ "المفاوضات المباشرة" مع إسرائيل، حين قال ساخرًا إن عون " يستطيع أن يرفع السماعة ويتصل بنتنياهو وينهي المهزلة".
 
في ضوء السقف المرتفع الذي بلغه خطاب توم براك، يمكن القول إن المبادرة الأميركية فقدت جزءًا كبيرًا من "لغتها الدبلوماسية" الأولى. بات المبعوث نفسه يجمع بين وصف لبنان بـ"الدولة الفاشلة"، والتحذير من تحرك إسرائيلي لنزع سلاح "حزب الله"، والتلويح بأن واشنطن، مهما بدت متحفظة عن الانخراط المباشر، لن تقف على الحياد إذا قرّرت تل أبيب توسيع نطاق عملياتها.بهذا المعنى، يصبح السؤال المشروع اليوم: ما الذي بقي من المبادرة الأميركية؟ وهل لا تزال إطارًا قابلًا لتسوية ما في مكانٍ ما؟
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق