نوفمبر.. شهر الأبوة فى الكنيسة، ومنذ سنوات ينتظره الأقباط للتعبير عن محبتهم للبابا، فمنذ عهد البابا الراحل شنودة الثالث كان الأقباط يكرسون يوم ١٤ نوفمبر للاحتفال بعيد جلوسه، والآن وفى عهد البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، انتقل الاحتفال من يوم ١٤ إلى يوم ١٨، الذى يحل اليوم الإثنين.
«الدستور» تحتفى بهذه الذكرى، وتنشر فصلًا من كتاب، يصدر خلال أيام، للكاتب الصحفى محمد الباز، تحت عنوان «شهادة البابا تواضروس.. الدولة- الكنيسة- الإرهاب»، ونقرأ معًا كيف وصل «وجيه صبحى» إلى كرسى البطريرك.
قررت «الأم» اصطحاب طفلها «وجيه صبحى باقى سليمان» الذى لم يبلغ من العمر عشرة أعوام إلى الكنيسة بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة.
كانت تريد ترسيمه شماسًا.
وقف فى الطابور بين الأطفال الذين يستعدون لطقس الترسيم، وفجأة أخرجه كبير الشمامسة من الطابور، قال له: أنت غريب.. ولست من أهالى دمنهور.
تبعثر قلب الطفل الصغير، وتحطم قلب الأم التى اصطحبت ولدها- وهى تبكى- إلى البيت، وعندما عاد الوالد ووجدها على حالتها من الحزن الذى كاد يفطر قلبها خفف عنها ما تلاقيه، ولما عرف منها سبب حزنها، قال لها وهو يبتسم: لا تحزنى.. فمن يعلم الغيب؟... غدًا يرسمونه أسقفًا.
لم يكن «الأب صبحى باقى» يقرأ كف الغيب.
وجد زوجته حزينة فحاول التخفيف عنها، لكنه لم يكن يعلم أنه يضع على جبين طفله الصغير نبوءة كان الزمان وحده كفيلًا بتحقيقها.
حدث هذا فى العام ١٩٦٢، وبعد ما يقرب من خمسين عامًا وفى العام ٢٠١٢ أصبح الطفل «وجيه صبحى» هو «البابا تواضروس الثانى» بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية.
فى المرحلة الثانوية بدأت ملامح خريطة حياة البابا تتضح.
كان يتردد على مدارس الأحد، وبعد أن كان تلميذًا فيها أصبح خادمًا، وبدأ خدمته فى كنيسة الملاك الأثرية مع الأب ميخائيل جرجس الذى كان أب اعترافه.
وخلال هذه الفترة وقع فى يد البابا كتاب «بستان الرهبان» الذى كان نافذته الكبرى على حياة الرهبان، وليس بعيدًا أن هذا الكتاب تحديدًا- قرأه البابا فى ليلة واحدة بعد استعارته من مكتبة مدرسته عمر مكرم الثانوية- كان عاملًا مهمًا فى دفع البابا دفعًا إلى أن يترك الحياة المدنية ويدخل إلى الدير تاركًا وراءه كل ما قد يشغل شابًا يحمل بين يديه مستقبلًا باهرًا.
الكتاب الذى قرأته أنا أكثر من مرة هو أشهر الكتب فى التراث المسيحى المصرى، ويضم قصص حياة وأقوال وتجارب وخبرات وجهادات ما يقرب من ألفى راهب وناسك عبر ثلاثة قرون، وقد حذرنى كثيرون من قراءته لأنه يحتاج إلى مرشد روحى يدلك على ما فيه دون الوقوع أحيانًا فى بعض الأقوال المتناقضة أو التجارب المتنافرة، لكننى أعترف بأننى خرجت منه بحالة غير الحالة التى دخلته بها، ولا يزال فى مكتبتى بين الكتب المقربة منى رغم أن هذا يثير دهشة الكثيرين من حولى.
فى يناير ٢٠٢٠ كان البابا تواضروس الثانى يجتمع مع عدد من كهنة إيبارشيات سوهاج، وفى هذا الاجتماع أعلن عن أن الكنيسة أصدرت كتاب «بستان الكهنة» على غرار كتاب «بستان الرهبان»، وأنه أشرف على إعداده وجمع فيه عددًا من أقوال وخبرات عدد من الكهنة الأتقياء من تاريخ الكنيسة حتى القريب منه، وأنه كان قد عرض فكرة الكتاب على عدد من الآباء الكهنة، فعكفوا على البحث حتى انتهوا منه.
وقال البابا لكهنة سوهاج إن الكتاب سيكون مفيدًا للتعامل فى الحياة الكنسية، وإنه مهم جدًا ومقسم لعشرة أبواب، ويضم العديد من التفاصيل الكثيرة على غرار «بستان الرهبان»، كما يضم أقوالًا عديدة لمجموعة كبيرة من الآباء الكهنة، وفى نهاية اللقاء قام بتوزيع نسخ من الكتاب على المجتمعين معه.
وفى فبراير ٢٠٢٠ كتب البابا تواضروس الثانى مقاله الافتتاحى بمجلة الكرازة عن «بستان الكهنة».
يقول البابا فى مقاله: من الكتب التراثية فى كنيستنا كتاب «بستان الرهبان»، وهو كتاب قديم وتم تجديد طباعته عدة مرات، ويحوى خلاصة الحياة الرهبانية والتلمذة الديرية من خلال قصص موجودة لشخصيات كثيرة تقدم نماذج وقدوة للحياة الرهبانية، وأيضًا أقوالهم وسيرهم ومواقف حياتهم التى استودعوها بالتلمذة الحقيقية فى أبنائهم الروحيين، حتى صاروا هم معلمى الرهبنة فى أصالتها وعمقها التاريخى.
ويكشف البابا عن أنه على غرار هذا الكتاب الثمين قام آباء وخدام كنيسة مار مرقس القبطية الأرثوذكسية فى مصر الجديدة بالقاهرة بإعداد كتاب اسمه «بستان الكهنة»، حيث جمعوا فيه أقوال نحو سبعين من الشخصيات المباركة ما بين بطاركة ومطارنة وأساقفة وكهنة وشمامسة ورهبان، ثم قاموا بتبويب هذه الأقوال تحت عشرة أبواب.
تم تدعيم الكتاب، كما يقول البابا، بجوار الأقوال المذكورة بمواقف وقصص من حياة الآباء ذات معانٍ روحية تقدم خبرات روحية عملية لمن يطالع الكتاب.
ويشير البابا إلى أن الكتاب سيكون سندًا قويًا للكثيرين فى جهادهم الروحى وسلوكهم المستقيم وسط هذا العالم، كما سيكون مرشدًا ومرجعًا لحياة الأب الكاهن الذى يريد أن يعيش بركة الكهنوت وكرامته وتأثيره القوى فى نشأة وتربية ورعاية الأجيال، لأنه من تحت يد الكاهن فى كل كنيسة يخرج الإنسان الفاضل والتائب، ويخرج الخادم والخادمة والشماس والراهب والراهبة، والمكرس والمكرسة، والكاهن والأسقف والبطريرك، كما يتخرج من تحت يديه كل أسرة حديثة تتكون فى مخافة المسيح، فالكاهن له دور قوى وفعال ومؤثر فى حياة المؤمنين فى كنيستنا المقدسة.
ويستشهد البابا بما قاله المسيح له المجد: إن الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون، ويؤكد أن المقصود هنا الكهنة الفعلة أى أصحاب التأثير الإيجابى فى حياة المؤمنين بنموذج حياتهم وقدوتهم وتعاليمهم الأمينة المخلصة.
ويبعث البابا بتحية إلى الآباء والخدام الذين تعبوا بالحقيقة فى إعداد هذا البستان الذى كان يتوق له منذ زمن بعيد، فقد قدموا عملًا أمينًا لخدمة الكنيسة أجيالًا وأجيالًا، ولمنفعة الذين يبحثون عن الحياة الروحية الأصيلة وعن الخدمة الكهنوتية الأمينة.
ويختم البابا مقاله بقوله: إننى أحسب أن هذا الكتاب الفريد سيكون بلا شك علامة فارقة فى تواصل الأجيال، وفى تسليم الوديعة الأمينة فى نقاء وإخلاص، وكما نصلى فى طلبات القداس «أعط بهاء للإكليروس»، سيكون هذا البستان وسيلة حقيقية فى حفظ هذا البهاء والنقاء، وتقديمه من خلال عمل الأب الكاهن مع كل رعية وفى كل كنيسة، إننى أدعو كل خادم وكل كاهن لاقتناء هذا الكتاب وقراءته بتأنٍ، ومطالعته باستمرار ليحفظ خدمته فى مسارها السليم، كما استودعه المسيح هذا الكهنوت المبارك من أجل رعيته فى كل مكان.
لم يكن لـ«بستان الرهبان» أثر عابر فى حياة وتكوين البابا تواضروس الثانى إذن، ولكنه لعب دورًا كبيرًا فى تشكيله، وهو الدور الذى ظل باقيًا ومؤثرًا فى مسيرته الروحية، وهو ما دعاه إلى أن يوجه بإصدار كتاب على نهجه لمعرفته بقيمته وأهميته فى الحياة الروحية ليس لرجال الكهنوت فقط، ولكن فى حياة كل أبناء الكنيسة.
ما قام به البابا تواضروس يضع أيدينا، كذلك، على ملمح مهم من ملامح شخصيته، فهو مجدد حقيقى، كان يمكنه أن يكتفى بكتاب «بستان الرهبان» التراثى، يعيد طباعته بشكل واسع ويدعو الجميع إلى قراءته ودراسته، لكنه مع إيمانه الكبير بأهمية وقيمة الكتاب، قرر أن يكون مجددًا، وأن تكون هناك نسخة جديدة من الكتاب تستوعب تجارب جديدة، وخبرات جديدة، وأقوالًا جديدة، لأن الحياة تتطور، ومؤكد أن رجال الكهنوت الجدد لديهم ما يمكن أن يضيفوه لهذا العمل التراثى العظيم.
كانت النقلة الروحية الكبيرة التى أحدثها «بستان الرهبان» فى حياة الطالب وجيه صبحى دافعًا لما هو أكثر، فأثناء دراسته بدأ خدمته بكنيسة رئيس الملائكة، بعد أن اجتاز فصول إعداد الخُدام، كما قام بتأسيس المكتبة الاستعارية فى الكنيسة.
لعبت الأقدار دورًا كبيرًا فى المفارقات التى مرت بحياة البابا.
فبعد نكسة ١٩٦٧ تابع وجيه صبحى الأنباء التى وردت إليه عن تجلى السيدة مريم العذراء فى كنيستها بالزيتون بالقاهرة، وهو الحدث الجلل الذى هز مصر كلها، وتابعه المسلمون والمسيحيون على السواء، رأى الجميع أن العذراء تجلت لتخفف عن كواهل المصريين عبء الهزيمة التى أتت على الأخضر واليابس.
وتشاء الأقدار أن يتم الاحتفال بمرور خمسين عامًا- فى ٢٠١٨- على تجلى العذراء الكبير والبابا تواضروس يجلس على كرسى البطريركية.
فى عظته بكنيسة الزيتون التى قدمها البابا فى الاحتفال بمرور نصف قرن على ذكرى التجلى، قال إن كل من شاهدوا ظهور العذراء مريم شعروا بسلام داخلى حقيقى فى عالم مضطرب، فهى نموذج رائع للإنسان الذى يتمتع بالسلام الداخلى، وقرأ آية من سفر النشيد «من هى المشرقة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية».
وختم البابا عظته بقوله: الإيمان هو المصدر الرئيسى للسلام الداخلى رغم طغيان الأمور المادية هذه الأيام، والسيدة العذراء حصلت على السلام الداخلى من خدمتها للناس، فسلامك من إيمانك.
رغم مسيرته الدراسية المميزة، ورغم انتظامه فى عمله بالمصنع الحكومى، فإن نداء الرهبنة لم يفارقه، بل لن أكون بعيدًا عن الواقع عندما أقول إن الأقدار كانت تعده ومبكرًا جدًا لمهمته الكبرى.
هل يمكننا أن نعود مرة أخرى إلى العام ١٩٧١، وتحديدًا إلى اليوم الثانى عشر من شهر ديسمبر؟
كان وجيه صبحى لا يزال طالبًا فى السنة الأولى بكلية الصيدلة، وكان يتم فى هذا اليوم سيامة نيافة الأنبا باخوميوس أسقفًا للبحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية.
هذه اللحظة دخل الأنبا باخوميوس إلى حياة البابا تواضروس.
ظل ملازمًا له، تعلم على يديه، وعرف منه حكمة السنين وتجاربها وخبرتها، وفى سبتمبر ١٩٧٥ تمت سيامة وجيه شماسًا فى كنيسة رئيس الملائكة بدمنهور على يد الأنبا باخوميوس.
فى يناير ٢٠٠٢ كان البابا تواضروس يشارك فى الاحتفال بمرور خمسين عامًا على ترسيم الأنبا باخوميوس أسقفًا، وهو الاحتفال الذى اعتبر البابا أن له مذاقًا خاصًا، فقد حبا الله البحيرة بنيافة الأنبا باخوميوس، الذى كان هدية أرسلها الله للناس يخدم بينهم بالروح والحق.
قبل هذا الاحتقال بأيام- ٣١ ديسمبر ٢٠٢١- كان البابا تواضروس قد كتب مقالًا مطولًا جعل منه افتتاحية مجلة الكرازة، وكان عنوانه فقط «الأنبا باخوميوس» وبدأ منه المعرفة الدقيقة من البابا تواضروس الثانى بكل ما يخص ويتعلق بالأنبا باخوميوس.
اختار البابا الكتابة عن الأنبا باخوميوس من خلال ثلاث زوايا.
الأولى أنه قامة وطنية، فهو يحب الوطن، تعلم على أرضه فى كل مدارس البلاد وجامعاتها، وتخرج وعمل وخدم، وحب الوطن يلازمه فى كل وقت، وهو ما تجلى فى مواقف عديدة عبر الخمسين سنة الماضية، فقد حفظ السلام فى مواقف كثيرة، ويميل إلى الهدوء والعمل العاقل الرزين الذى يحفظ السلام.
والثانية أنه قامة كنسية.. فالبحيرة فى بداية سيامته أسقفًا فى العام ١٩٧١ كانت جزءًا مضافًا إلى إيبارشية الغربية، وكان مطرانها السابق مقيمًا فى طنطا، وكان يتفقد البحيرة فى مرات قليلة جدًا، فقد كانت بالفعل نسيًا منسيًا والخدمة بها محدودة جدًا، لكن منذ وطأت قدماه أرض البحيرة بدأ عملًا حمل فيه الخبرة التى عمل بها، فقد سبق له العمل فى أول كنيسة امتدت خارج مصر وكانت فى الكويت فى العام ١٩٦٢، وكان وقتها شماسًا مكرسًا يحمل اسم سمير خير، وعندما التحق بالدير انتدبه البابا كيرلس السادس للخدمة فى السودان.
يذكر البابا للأنبا باخوميوس أنه لم يكن ينسى أبدًا مَن خدمهم، والغريب أنه كان يحفظ أسماءهم، وعندما كان يقابل زواره من السودان، ومن بينهم أبناء الجيلين الثانى والثالث، كان يقول للواحد منهم أنت ابن فلان، أو أنت بنت فلانة، ويفسر البابا ذلك بأنه كان خادمًا أمينًا، والخادم الأمين يحفظ أسماء من خدمهم.
وفى اعتزاز شديد يقول البابا: عندما حبانا الله بهذا الخادم فى إيبارشية البحيرة، بدأ عملًا متسعًا جدًا، ولم يكن العمل فى البحيرة وهى المركز، ولكن امتد إلى ربوع خدمته الجغرافية المتسعة التى نصفها فى مصر ونصفها خارج مصر.
والثالثة أنه قامة حكيمة.. فعندما دخلت الكنيسة فى أزمة ١٩٨١ قبيل اغتيال الرئيس السادات، كانت الأمور فى أعلى درجات التوتر، وتم اختيار الأنبا باخوميوس ليكون أحد أعضاء اللجنة الخماسية التى تدير الكنيسة بعد عزل البابا شنودة الثالث، وخلال عمل اللجنة كان طوال الوقت صوتًا للحكمة والعقل فى حفظ سلام الكنيسة والوطن.
وعندما حدثت بعض المشكلات الكنسية فى أستراليا سنة ١٩٧٤ انتدبه البابا شنودة الثالث للذهاب إلى هناك- وكان لا يزال أسقفًا شابًا- ليحل المشكلة التى وصفها الجميع بأنها كانت صعبة، وبحكمته وهدوئه استطاع أن ينجح فى مهمته، ويشير البابا- دون تفاصيل بالطبع- إلى أن هذه المشكلة كان يمكن أن تؤثر بشدة على مستقبل عمل الكنيسة فى بلاد المهجر.
وعندما اختارته العناية الإلهية أن يكون قائمقام خلال فترة حرجة للغاية فى تاريخ الوطن وتاريخ الكنيسة، استطاع بالروح وطول البال وبنوع من التعقل فى كل قرار وفى كل خدمة أن يحافظ على سلام الوطن والكنيسة، فهو ينادى دائمًا بأن صنع السلام أولوية أولى فى حياة الإنسان، وكما هو مكتوب «طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون».
يحتل الأنبا باخوميوس فى حياة البابا تواضروس الثانى مكانة الأب والمرشد والصديق والرفيق، وأعتقد أن ما قالاه عما يربطهما أقل كثيرًا مما شكلا علاقتهما على مدار ما يزيد على نصف القرن.
كانت خطوات البابا تواضروس الثانى إلى الرهبنة تتم على عين الأنبا باخوميوس، وكان نشاطه الكنيسى يتم برعايته.
ففى العام ١٩٨١ التحق وجيه صبحى بالكلية الإكليريكية فى الإسكندرية وتخرج فيها فى العام ١٩٨٣ ببكالوريس العلوم اللاهوتية والكنيسية، وفى العام ١٩٨٤ قام بتأسيس معرض للكتب المسيحية أثناء الأنشطة الصيفية فى كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بدمنهور، وكان هدفه تشجيع خُدام التربية الكنسية على تأسيس مكتبات خاصة بهم.
فى العام ١٩٨٤ اقترب البابا تواضروس خطوة واسعة من الرهبنة، فقد بدأ خدمته فى منطقة «كينج مريوط»، وخلالها كان يذهب مرة كل شهر ويقضى هناك يومين عادة ما كان الخميس والجمعة لتأسيس الخدمة هناك.
هناك ٣ تواريخ مهمة فى حياة البابا تواضروس الثانى.
الأول هو ٢٠ أغسطس ١٩٨٦ عندما توجه إلى دير القديس الأنبا بيشوى بوادى النطرون طالبًا الرهبنة،
والثانى هو ٢ أبريل ١٩٨٧ عندما ارتدى الملابس البيضاء وصار بالفعل طالب رهبنة، والثالث هو ٣١ يوليو ١٩٨٨ عندما تم ترسيمه راهبًا باسم الراهب «ثيؤدور الأنبا بيشوى» بيد البابا شنودة الثالث.
السؤال الذى لا بد أن يكون ضروريًا هنا هو: هل كان دخول البابا تواضروس الثانى عالم الرهبنة أمرًا سهلًا؟
لقد كان وحيد والدته، وكان العمود الفقرى للبيت بعد رحيل والده، فكيف ترك البيت وراءه، وكيف تعاملت والدته مع الأمر؟ وكيف ترك عمله فى مصنع الأدوية الحكومى الذى حقق فيه نجاحات شهد بها الجميع؟
كان صعبًا على السيدة سامية إستفانوس أن تترك ولدها الوحيد ليدخل إلى الدير، تنقطع علاقته بالعالم، يترك كل شىء وراءه ويذهب إلى الله، لكنها لم تمانع.
قالت له: إذا كنت تريد الدير.. فعليك أن تفعل هذا فورًا ولا تأجله.
كانت عونًا له بعد أن عرفت أن هذه رغبته.. وأدرك هو أن هذا قدره.
عندما مات الوالد صبحى باقى سليمان كان البابا تواضروس فى الخامسة عشرة من عمره، وعندما ماتت والدته فى ٢٩ مارس ٢٠١٤ كان فى العام الثانى والستين من حياته، وهو ما جعلها الأكبر أثرًا وتأثيرًا فى حياته.
كان البكاء هو اللغة الأكثر صدقًا وتعبيرًا عن حال البابا وهو يودع والدته، عندما عرف الخبر شعر وكأنه عاد طفلًا صغيرًا هو الذى كان قد مضى عليه فى كرسى البطريركية ما يزيد على العامين بأشهر قليلة، أغلق عليه باب قلايته وجلس يبكى فراق الحبيبة التى عانت فى سنواتها الأخيرة من قسوة الألم.
لا يخلو حديث للبابا من إشارة إلى أمه، بأنها صاحبة تأثير طاغ عليه.
كان يرى الدنيا بعينيها.
فى العام ١٩٦٨ كان يسمع أخبار تجلى العذراء فى كنيستها بالزيتون، لم يره بنفسه، لكنه عبر عن علاقته الوثيقة بأمه على هذه المساحة، قال: رأيت تجلى العذراء فى عينى أمى.. كنا فرحين بهذا السلام الذى بعثته فى نفسها.
وعندما نعرف أن هذه السيدة تعلمت كنسيًا فى دير القديسة دميانة وعاشت فى أجوائه الروحية فى طفولتها، فلن نتعجب من استيعابها المهمة الكبيرة التى نذر ابنها نفسه إليها، والمفارقة أنه بعد أن بدأ طريقه فى سلك الرهبنة كان يسمع من بعض آباء البحيرة الذين يزورونه فى الدير ما يشبه العتاب، كانوا يقولون له: ألن تعود إلى أمك؟ فى إشارة إلى صعوبة أن يكون الابن الوحيد للعائلة راهبًا، إلا أنه لم ينصت إلى ما قالوه، لأنه كان يعرف أن أمه كانت تدعو له أن يثبته الله على الطريق الذى اختاره.
كان البابا قريبًا من أمه طوال حياته، لكن فى محنة مرضها اقترب أكثر. لمدة عامين كاملين كانت أم البابا تتلقى علاجها فى مستشفى القديس مار مرقس بمنطقة سيدى بشر بالإسكندرية، وخلالهما كان دائم التردد عليها دون أن يُشغل أحدًا بذلك، فقد اعتبر أن الأمر يخصه وحده، كان يدخل إلى غرفته وعندما يجد آخرين يقفون بجواره كان يطلب منهم راجيًا أن يتركوه معها وحده، وعندما أشارت بعض الصحف إلى مرضها وزيارته لها استاء بشدة.. فقد كان الأمر يخصه دون سواه.
فى جنازتها اكتفى بالجلوس على كرسيه بالقرب من جسد أمه المسجى أمامه.
لم يتحدث.. اكتفى بالبكاء.
طلب من الأنبا باخوميوس أن يتحدث بالنيابة عنه، وبالفعل وقف أستاذه ومعلمه ورفيقه فى طريقه الروحى ليصف السيدة سامية نسيم إستفانوس بأنها تمثل الكنيسة الراعية لأبنائها.. لا تتركهم ولا تفرط فيهم، بل تهب نفسها لهم مهما كانت الظروف.
من كتاب شهادة البابا تواضروس
الدولة- الكنيسة- الإرهاب لـ«محمد الباز»