الصليبيون والصهيونية ومعاداة السامية

الصليبيون والصهيونية ومعاداة السامية
الصليبيون
      والصهيونية
      ومعاداة
      السامية

الجمعة 15/نوفمبر/2024 - 04:40 م 11/15/2024 4:40:06 PM


بمتابعة واسعة للغاية، تفوقت على أعلى نسبة من قبل، في قياسات المشاهدة عبر وسائل الإعلام، ظهر لاعب البوكر الأمريكي، الأقوى تأثيرًا في وسائل التواصل الاجتماعي، دان بيلزيريان، في برنامج Piers Morgan Uncensored Show يوم الثلاثاء الماضي، حيث أدلى بالعديد من التصريحات التحريضية والمثيرة للجدل حول حماس الإسرائيليين.. إذ وصف بيلزيريان حماس بأنها (حركة مقاومة)، ووصف زعيمها الراحل، يحيى السنوار، بأنه (بطل).. كما قال إن التقارير عن العنف الجنسي من قِبل حماس تم دحضها، وعندما سأله مُقدِم البرنامج، بيرس مورجان، كيف تم دحضها؟، قال (لقد رأيت مقالات تقول إن هذا لم يحدث).. كما جاء في صحيفة (جيروزالم بوست) العبرية.
واصل بيلزيريان حديثه عن أن اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق، جون كينيدي، عام 1963، كان عملية نفذها الموساد الإسرائيلي، كما قال إن إسرائيل قتلت الزعيم الليبي معمر القذافي عام 2011، وأن الموساد دبر قضية جزيرة جيفري إبستين، وهي قضية أخذت اسم صاحبها الملياردير ورجل الأعمال الأمريكي، جيفري إبستين، المتهم بإدارة شبكة للدعارة، واستغلال منازله وجزيرة كان يملكها لارتكاب جرائم جنسية ضد فتيات قاصرات، وتجنيد أخريات لتوسيع شبكته.. وقد ظهرت القضية للعموم عام 2005، عندما حوكم إبستين بتهمة ممارسة الدعارة مع قاصر، وتم الكشف عن وثائق أثبتت تورطه، رفقة شخصيات سياسية وفنية أمريكية وعالمية في شبكة للدعارة واستغلال القاصرين.. وعلى الرغم من انتحاره عقب اعتقاله للمرة الثانية عام 2019، فإن القضية بقيت متفاعلة بعده، وأحدثت ضجة في المجتمع الأمريكي.. صحيح، أن بيلزيريان أجاب ببساطة، (لم أكن هناك، ولكن كل ما رأيته من أدلة، يشير إلى إسرائيل)، ويعتقد أن إسرائيل تسيطر على الحكومة الأمريكية، وأنها ابتزت السياسيين وسيطرت عليهم.
وعندما سأله المذيع، بيرس مورجان، عما إذا كان اليهود على حق في الشعور بأنهم ضحايا بسبب الهولوكوست، رد بيلزيريان قائلًا، (أعتقد أن التفوق اليهودي هو التهديد الأعظم للعالم اليوم.. إن معظم المشاكل اليوم سببها التفوق اليهودي).. إن عدد اليهود الذين قتلوا أثناء الهولوكوست قد (خضع للمراجعة).. وعندما واجهه مورجان بهذا التصريح، قال له إنه (يراهن بثروته الصافية بالكامل على أن هذا الرقم أقل من ستة ملايين)، مؤكدًا أن (علم الرياضيات لا يعمل عند هؤلاء).. وقد أثارت تصريحات بيلزيريان الجدل، عندما قال إن اليهود قتلوا مسيحيين أكثر من ستة ملايين، وأنهم هم الذين (اخترعوا الإبادة الجماعية).
ولم يجد مورجان مفرًا، لإنقاذ نفسه من مأزق الحوار الصعب، إلا باتهام بيلزيريان بمعاداة السامية، ولكن بيلزيريان يعيد التأكيد على اعتقاده بشأن المخاطر المفترضة لـ (التفوق اليهودي)، وأن اليهود (يسيطرون على وسائل الإعلام)، ويروجون علنًا لإيديولوجيات التحول الجنسي.. مؤكدًا أنه يعارض كلمة (معاداة السامية)، واصفًا الفلسطينيين بـ (الساميين الحقيقيين).. ثم قال، إن جميع اليهود الإسرائيليين هم يهود أشكناز من أوروبا الشرقية، وأنهم (لا يحملون الحمض النووي العبري الحقيقي).. هنا، رد مورجان عن ما اعتبره معاداة للسامية التي أظهرها بيلزيريان خلال حلقة البرنامج، (لقد صُدمت من مدى وقاحتك.. إنك تلوم اليهود حرفيًا على كل ما حدث في العالم ولا يعجبك.. وهذا هو التجسيد الأكثر نقاءً لمعاداة السامية).. ليرد عليه بيلزيريان قائلًا، إن اليهودية (تشجع القتل والاغتصاب، وتسرق من الآخرين طالما أنهم ليسوا يهودًا)، ووصف إسرائيل بأنها (تجسيد لذلك).. وبعد فترة توقف طويلة، يصف مورجان بيلزيريان بالنازي، ويقول له، (ما تقوله هو حرفيًا ما قاله النازيون في الحرب العالمية الثانية؛ لقد عبروا حرفيًا عن كراهيتهم للشعب اليهودي، وأسباب ذلك بالطريقة نفسها التي فعلتها للتو.. لقد قضيت حرفيًا آخر عشرين دقيقة، في خطاب نازي معادٍ للسامية).
●●●
في نفس ذلك اليوم، الثلاثاء، الثالث عشر من نوفمير الحالي، يكتب الصحفي الأمريكي، توماس فريدمان، من تل أبيب، لصحيفة (نيويورك تايمز)، قائلًا، عندما تقرأ التقارير الإخبارية عن العنف المروع ضد مشجعي كرة القدم الإسرائيليين في أمستردام بهولندا، ليس هناك شك في أن الكراهية القوية والقبيحة المعادية لليهود كانت تعمل هناك.. إنكار ذلك، هو وضع رأسك في الرمال، لكن الاعتقاد بأن هذا هو كل ما يدور حوله، أمر خطير للغاية بالنسبة لإسرائيل والشعب اليهودي.. أحد أكثر الأشياء إثارة للدهشة حول وجودك في إسرائيل الآن، هو إدراك كيف أن اليهود الإسرائيليين العاديين قد شاهدوا عددًا قليلًا جدًا من الصور، التي تُنشر كل يوم على وسائل التواصل الاجتماعي لبقية العالم، والتي تظهر رجالًا ونساءً وأطفالًا فلسطينيين قتلوا وجرحوا وشوهوا، كأضرار جانبية في حرب إسرائيل على حماس، التي قتلت هي نفسها، وجرحت وشوهت واختطفت إسرائيليين في السابع من أكتوبر من العام الماضي.
أنا لست قاضًيا، يقول فريدمان.. لا أعرف ما هي النسبة (العادلة) من أرواح المدنيين الفلسطينيين، ومنازلهم التي قد تقول قوانين الحرب، إنه من المقبول أن تدمرها إسرائيل، ردًا على السابع من أكتوبر، مقابل كل يهودي إسرائيلي ومنزل دُمر في ذلك اليوم.. ولكنني هنا لأقول، إنه مهما كان العدد، فإن إسرائيل تجاوزته الآن.. وحقيقة أن هذا التدمير لغزة، مستمر كل يوم من قِبل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة، لا تزال ـ بعد حوالي أربعة عشر شهرًا من بدء الحرب ـ ترفض تقديم أي خطة لحكم فلسطيني لائق في غزة، ليحل محل حماس، وهو أمر من شأنه أن يقول لأصدقاء إسرائيل وأعدائها، (نعم، هذه الحرب تكلف خسائر فادحة)، ولكنها تسعى إلى مستقبل أفضل للإسرائيليين والفلسطينيين، (يحوِّل الدولة اليهودية إلى دولة منبوذة). 
في صباح يوم الأربعاء، تناولت الإفطار في تل أبيب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود أولمرت، وانحرفت محادثتنا إلى هذا الواقع.. ثم مد أولمرت يده إلى حقيبته وقرأ لي بصوت عال ملاحظاته المكتوبة بخط اليد، من مقال كان يستعد لتقديمه إلى الصحافة العبرية حول أمستردام.. يقول في بعض المقتطفات، إن ما حدث في أمستردام هو في المقام الأول انعكاس لكراهية العديد من المسلمين لدولة إسرائيل ومواطنيها، بسبب ما يحدث في منطقتنا.. إنه ليس استمرارًا لمعاداة السامية التاريخية التي اجتاحت أوروبا في القرون الماضية، والتي مصدرها التعصب الديني المسيحي، وعدم التسامح مع الشعب اليهودي بشكل عام.. الحقيقة، هي أن الكثير من الناس في العالم، غير قادرين على الإذعان لتحويل إسرائيل غزة، أو الأحياء السكنية في بيروت، إلى العصر الحجري، كما وعد بعض قادتنا بذلك..  ناهيك عما تفعله إسرائيل في الضفة الغربية من القتل وتدمير الممتلكات الفلسطينية.. هل نحن مندهشون حقًا من أن هذه الأشياء تخلق موجة من ردود الفعل العدائية، عندما نستمر في إظهار عدم الحساسية تجاه البشر، الذين يعيشون في وسط ساحة المعركة، والذين ليسوا إرهابيين؟.
استمدت الأحداث في أمستردام جذورًا عميقة في ماضي الشعب اليهودي.. لكنهم اعتمدوا أيضًا على سيل لا ينتهي من صور وسائل التواصل الاجتماعي، للدمار الذي لحق بغزة دون أي خطة إسرائيلية، تقدم طريقة أفضل لليهود والفلسطينيين للعيش جنبًا إلى جنب.. إن التركيز بالكامل على الأول وتجاهل الثاني تمامًا، يتعلق بأخطر شيء يمكن أن يفعله اليهود في كل مكان اليوم.
●●●
وفي مقال قديم، يعود تاريخه إلى الحادي عشر من أكتوبر 2014، كتب أوري أفنيري، مقالًا بعنوان (أوجه التشابه بين الصليبيين والصهاينة)، يقول فيه، أنه في الآونة الأخيرة، أصبحت كلمتا (الصليبيين) و(الصهاينة) تظهران بشكل متزايد كتوأم.. في فيلم وثائقي عن داعش شاهدته للتو، ظهرت الكلمتان معًا في كل جملة تقريبًا، ينطق بها المقاتلون المتأسلمون، بما في ذلك المراهقون.
وكإستطراد لازم، فإن أوري أفنيري، الذي عاش من العاشر من سبتمبر 1923 إلى العشرين من أغسطس 2018، وُلِد في ألمانيا، حيث حمل اسم هلموت أوسترمان، وقد هاجر إلى فلسطين عام 1933.. هو صحفي إسرائيلي، وأحد أشهر ناشطي اليسار في إسرائيل، كما أنه عضو كنيست سابق.. وكان سابقًا عضوًا في الحركة الصهيونية التعديلية.. كما انخرط في صفوف مليشيات الإرجون الإرهابية، وهو في سن الخامسة عشر.. وقد شارك لاحقًا في حرب 1948.. اشتهر أفنيري بمقابلته ياسر عرفات في الثالث من يوليو 1982، أثناء حصار بيروت، ليكون بذلك أول إسرائيلي يقابل عرفات شخصيًا.. وقد تحول أفنيري بعد ذلك نحو اليسار الإسرائيلي، وأنشأ عام 1993 حركة كتلة السلام، أو (جوش شلوم) بالعبرية.. ويُعرف عن أفنيري كونه يهودي علماني معارض لنفوذ اليهود الأورثوذكس على الحياة السياسية في إسرائيل.. كما كان من الناشطين سياسيًا، الداعين لحل الدولتين (دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، تعيشان متجاورتين بسلام كحل للقضية الفلسطينية).. وقد عمل على الترويج لأفكاره عبر العديد من النشاطات التي قامت بها حركته، وعبر العديد من المقالات التي كتبها.. ومن أقواله، (أنت لا تستطيع أن تحدثني عن الإرهاب، فأنا كنت إرهابيًا).
يقول أفنيري، قبل حوالي ستين عامًا كتبت مقالًا، كان عنوانه بالضبط، (الصليبيون والصهاينة).. ربما كان أول مقال حول هذا الموضوع، أثار الكثير من المعارضة.. في ذلك الوقت، كان مقالًا صهيونيًا.. لقد رويت بالفعل القصة عدة مرات، عن تعلقي بتاريخ الصليبيين، لكنني لا أستطيع مقاومة إغراء سردها مرة أخرى.
خلال حرب 1948، كانت وحدتي الكوماندوز تقاتل في الجنوب.. وعندما انتهت الحرب، ظلت منطقة ضيقة من الأرض على طول البحر الأبيض المتوسط في أيدي المصريين.. أطلقنا عليها اسم (قطاع غزة) وبنينا حولها مواقع استيطانية.. وبعد بضع سنوات، قرأت كتاب ستيفن رانسيمان الضخم (تاريخ الحروب الصليبية).. ولفت انتباهي على الفور مصادفة غريبة: بعد الحملة الصليبية الأولى، تُرِك شريط من الأراضي على طول البحر في أيدي المصريين، ويمتد بضعة كيلو مترات خارج غزة.. بنى الصليبيون سلسلة من التحصينات لاحتوائها.. كانت في نفس الأماكن تقريبًا مثل مواقعنا الاستيطانية.. وعندما انتهيت من قراءة المجلدات الثلاثة، فعلت شيئًا لم أفعله من قبل أو منذ ذلك الحين: كتبت رسالة إلى المؤلف.. بعد الإشادة بالعمل، سألته: هل فكرت يومًا في التشابه بينهم وبيننا؟.
وصلت الإجابة في غضون أيام.. لم يفكر في الأمر فحسب، كما كتب رانسيمان، بل كان يفكر فيه طوال الوقت.. ولقد أراد أن يسمي الكتاب (دليل للصهاينة حول كيفية تجنب القيام بذلك).. ولكنه أضاف قائلًا، (نصحني أصدقائي اليهود بعدم القيام بذلك).. وطلب مني، أنه إذا أتيحت لي الفرصة في أي وقت بالمرور عبر لندن، فسوف يسعده أن أزوره.. وكنت في لندن بعد بضعة أشهر واتصلت به.. فطلب مني أن آتي إليه على الفور.. وأجاب ستيفن رانسيمان بنفسه، وهو رجل بريطاني طويل القامة يبلغ من العمر نحو خمسين عامًا.. ولأنني من عشاق إنجلترا الذين لا يمكن شفاؤهم، فقد سحرني أسلوبه الأرستقراطي المهذب.. وانغمسنا في مناقشة التوازي بين الصليبيين والصهاينة، وفقدنا كل إحساس بالوقت.. وظللنا لساعات نقارن الأحداث والأسماء.. فمن هو هرتزل الصليبي (البابا أوربان)؟، ومن هو بن جوريون الصليبي؟.. (جودفري؟.. بالدوين؟)، ومن هو الصهيوني رينالد شاتيلون (موشيه ديان)؟، ومن هو الإسرائيلي ريموند طرابلس، الذي دعا إلى السلام مع المسلمين؟ (أشار رانسيمان إليّ بلطف).
وبعد سنوات، دعاني رانسيمان وزوجتي إلى اسكتلندا، حيث انتقل للعيش في برج مراقبة قديم بالقرب من لوكربي، بُني للدفاع ضد إنجلترا.. وخلال العشاء الذي قدمه خادم وحيد، تحدث عن الأشباح التي تُطارد المكان.. وقد ذُهلت أنا وراشيل، عندما أدركنا أنه يؤمن بها حقًا.. لقد كان هناك ما لا يقل عن ستة قرون من الزمان تفصل بين الحركتين التاريخيتين، وكانت خلفياتهما السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية مختلفة تمامًا بالطبع.. ولكن بعض أوجه التشابه واضحة.. فقد غزا الصليبيون والصهاينة ـ وكان الفلسطينيون هناك من قبلهم ـ فلسطين من الغرب.. لقد عاشوا وظهرهم للبحر وأوروبا، في مواجهة العالم العربي الإسلامي.. لقد عاشوا في حرب دائمة.. في ذلك الوقت، كان اليهود يتماهون مع العرب.. ولا تزال المذابح الرهيبة التي ارتكبها بعض الصليبيين في حق المجتمعات اليهودية على طول نهر الراين، في طريقهم إلى الأرض المقدسة مطبوعة بعمق في الوعي اليهودي. لقد ارتكب الصليبيون جريمة شنيعة أخرى، عندما احتلوا القدس، فذبحوا كل سكانها من المسلمين واليهود، رجالًا ونساءً وأطفالًا، وخاضوا (الحرب حتى رُكبهم في الدماء)، على حد تعبير أحد المؤرخين المسيحيين.
●●●
أما حيفا، إحدى آخر المدن التي سقطت في أيدي الصليبيين، فقد دافع عنها سكانها اليهود بشراسة، وقاتلوا جنبًا إلى جنب مع حامية المسلمين.. لقد نشأت على كراهية الصليبيين، ولكنني لم أكن أدرك الكراهية الشديدة التي كان المسلمون يكنونها لهم، حتى طلبت من الكاتب العربي الإسرائيلي، إميل حبيبي، أن يوقع على بيان يدعو إلى شراكة إسرائيلية ـ فلسطينية بشأن القدس.. وفي البيان، ذكرت كل الثقافات التي أثرت المدينة في الماضي.. وعندما رأى حبيبي أنني أدرجت الصليبيين في البيان، رفض التوقيع، وقال في دهشة، (كانوا مجموعة من القتلة!).. واضطررت إلى حذفهم.. فعندما يربطنا العرب بالصليبيين، فإنهم يريدون بوضوح أن يقولوا إننا أيضًا دخلاء أجانب، وغرباء عن هذا البلد وهذه المنطقة.
إن المقارنة هنا خطيرة للغاية.. فإذا كان العرب يحملون مثل هذه الكراهية العميقة للصليبيين بعد ستة قرون، فكيف لهم أن يتصالحوا معنا؟.. وبدلًا من إضاعة وقتنا في المناقشة، حول ما إذا كنا متشابهين أم لا؟، فمن الأفضل لنا أن نتعلم من تاريخ الصليبيين.. إن الدرس الأول يتعلق بمسألة الهوية.. فمن نحن؟، وهل نحن الأوروبيون الذين نواجه منطقة معادية؟، وهل نحن (جدار ضد البربرية الآسيوية)، كما أعلن تيودور هرتزل؟، وهل نحن (فيلا في الغابة)، وفقًا للمقولة الشهيرة لإيهود باراك؟.. وباختصار، هل نرى أنفسنا ننتمي إلى هذه المنطقة؟، أم أننا أوروبيون هبطوا عن طريق الخطأ على القارة الخطأ؟.
في اعتقادي، يقول أفنيري، أن هذا هو السؤال الأساسي الذي تطرحه الصهيونية، التي تعود إلى يومها الأول، وتُملي كل ما فعلته حتى يومنا هذا.. وفي كتيب (الحرب أو السلام في المنطقة السامية)، الذي نشرته عشية حرب عام 1948، طرحت هذا السؤال في الجملة الأولى.. إن الصليبيين لم يكونوا يتساءلون عن هذا الأمر على الإطلاق.. فقد كانوا زهرة الفروسية الأوروبية، وقد جاؤوا لمحاربة المسلمين.. وقد عقدوا هدنات مع الحكام العرب، وخصوصًا أمراء دمشق، ولكن محاربة الإسلام كانت سبب وجودهم.. أما دعاة السلام والمصالحة القلائل، مثل رايموند الطرابلسي، فقد كانوا غرباء مُحتقرين.
إسرائيل في وضع مماثل.. صحيح أننا لا نعترف أبدًا بأننا نريد الحرب؛ ونقول بأن العرب هم الذين يرفضون السلام دائمًا.. ولكن منذ يومها الأول، رفضت دولة إسرائيل تحديد حدودها، وكانت مستعدة دومًا للتوسع بالقوة، تمامًا مثل الصليبيين.. واليوم، بعد ستة وستين عامًا من تأسيس دولتنا ـ وقت كتابة أفنيري لمقاله ـ فإن أكثر من نصف الأخبار اليومية في وسائل إعلامنا، تتعلق بالحرب مع العرب، داخل إسرائيل وخارجها.. وتعاني إسرائيل من شعور عميق بعدم الأمان الوجودي، والذي يجد تعبيره في أشكال لا حصر لها.. ولكن لماذا لم يكن هذا الشعور بالأمن سببًا في إثارة الدهشة؟.. إنني أعتقد أن جذور هذا الشعور تكمن في الشعور بعدم الانتماء إلى المنطقة التي نعيش فيها، وبأننا مجرد فيلا في الغابة، وهو ما يعني في واقع الأمر أن نكون أشبه بجيتو مُحصن في المنطقة.. وربما نستطيع أن نقول إن هذا الشعور طبيعي، لأن أغلب الإسرائيليين من أصول أوروبية.. ولكن هذا غير صحيح.. ذلك أن عشرين في المائة من المواطنين الإسرائيليين عرب.. وما لا يقل عن نصف اليهود جاءوا إلى هنا، هم أو آباؤهم، من بلدان عربية، حيث كانوا يتحدثون العربية ويستمعون إلى الموسيقى العربية.. فهل كان الصليبيون أقلية أرستقراطية صغيرة في دولتهم، كما يزعم المؤرخون الصهاينة دومًا؟.. هذا يتوقف على الطريقة التي نحسب بها الأمور.
فعندما وصل الصليبيون الأوائل إلى فلسطين، كانت أغلبية السكان لا تزال مسيحية من مختلف الطوائف الشرقية.. ولكن الغزاة الكاثوليك نظروا إليهم باعتبارهم غرباء أدنى منزلة.. وكان البولانيون، كما كانوا يسمونهم، موضع احتقار وتمييز.. لقد شعروا بأنهم أقرب إلى العرب من (الفرنجة) المكروهين، ولم يحزنوا عندما طُرِدوا منها في النهاية.. وقد اعتنق أغلب هؤلاء المسيحيين الإسلام في وقت لاحق، وكانوا أجداد العديد من الفلسطينيين المسلمين اليوم.
إن الدرس الآخر الذي يجب أن نتعلمه من هذه الحرب، هو التعامل مع الهجرة بجدية.. ففي المجتمع الصليبي كان هناك ذهاب وإياب مستمر.. والآن يدور نقاش محتدم حول الهجرة في إسرائيل.. فالشباب، ومعظمهم من المتعلمين، مع أطفالهم، يغادرون إلى برلين وغيرها من المدن الأوروبية والأمريكية.. وفي كل عام ينظر الإسرائيليون بقلق إلى الموازنة: كم عدد الذين دفعتهم معاداة السامية إلى إسرائيل؟، وكم عدد الذين دفعتهم الحرب والتطرف اليميني إلى العودة إلى أوروبا؟.. لقد كانت هذه مأساة بالنسبة للصليبيين.. ومن بين الأسباب الرئيسية وراء رفض الصهيونية للمقارنة بالصليبية، نهايتهم المؤسفة.. فبعد ما يقرب من مائتي عام في فلسطين، مع العديد من الصعود والهبوط، أُلقي آخر الصليبيين حرفيًا في البحر من رصيف عكا.. وكما كان رئيس الحركة السرية ورئيس الوزراء الأسبق، إسحاق شامير، يحب أن يقول، (البحر هو نفس البحر والعرب هم نفس العرب).. وبطبيعة الحال، لم يكن لدى الصليبيين قنابل نووية ولا غواصات ألمانية!!.. هل فهمتم؟.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق لافروف: ننتظر من ترامب مقترحاته بشأن التسوية فى أوكرانيا
التالى سعر الذهب الأن في محلات الصاغة بمصر