حدثنى كثيرًا عن الموت.
قال لى: إنه قابل الموت أكثر من مرة.. رأى وجهه وعينيه.. بل إن يد الموت قد جذبته فى إحدى المرات وهو صغير وحاول الفرار منه، قابله مرة فى الليل، رآه فى الطريق إلى بور توفيق، وكان الظلام قد تسلل فاختبأ خلف جدار، ولم يعرف الموت كيف يصل إليه، وبعد ساعات طويلة خرج بخطى بطيئة وظل قابعًا فى بيته لا يخرج إلى طرقات المدينة.
تجول الموت فى المدينة أيام الحرب وكم حدق فى بيوت المدينة والتى كانت تتساقط وتميل على جانبها، وبعضها يصيبها الدوار فتهتز ثم تسقط ساكنة لبرهة.. ثم تتداعى، كان يرى ذلك وهو شاب يحمل سلاحًا ضمن فرق المقاومة الشعبية بالمدينة، رآه أيضًا عندما كان يدهن المصابيح باللون الأزرق فترقبه عيونه فى الضوء الصاخب المنبعث من انفجارات ضرب النار فى الشوارع، يرى شبحه وهو يحمل الصغار عندما يصعقهم صوت الطائرات المخيف فى الصباح الباكر، يراه هناك وهو يسحب أرواحهم البريئة، ينظر إليه يبحلق فيه وعندها يرتجف جسده كله ويحاول أن يختفى خلف ظل بيت من بيوت السويس التى صمد كثير منها وأبت أن تميل وظلت تنظر للموت بعيون شاخصة تتأمله.
قال لى: كتبت رواية عن الموت، كنت أنا والرجل الذى كان جثة يسعى معى فى المدينة التى وقفت على قدميها بل على رءوس أصابعها تصد بكل قوتها وكل ما فيها خطواته العابثة.
قال: أنا والرجل الجثة كنا نقاوم، وأسميت الرواية «الرجل والموت».
وقال لى أيضًا: أرواح أصدقائى الذين رحلوا لا تفارقنى أبدًا، كل واحد منهم يأتى لى فى اليقظة والحلم يحكى عن لحظة وفاته حتى أننى تعرفت على كل الطرق التى يسلكها ويتسلل منها إليهم.
والكل يطالبنى بأن أرصد جميع خطواته التى يظهر بها حتى أحذره وأروى عنه.
وعندما أتقنت معرفتى به وبكل حيله وألاعيبه.. وبدأت الكتابة عنه، كان يفاجئنى بأخذ صديق آخر منى بطرق جديدة تمامًا عما عرفته مرة وهو يضحك أو يكتب أو ينام أو يعبر الطريق، حتى أنه قد أخذ أحد القاصين وهو يقرأ قصته التى صور فيها مشهد الموت.. المشهد هو نفسه الذى ظهر له الموت فيه عند نهاية أحداث القصة ونهاية حياة القاص.
قال لى: هل أنت مثلى تتذكرين الموت ولا يغيب عنك أبدًا؟
قلت له: وكنت حينها فى أول العمر، عندما يأخذ الموت شخصًا أعرفه، تغيب عنى ملامحه ببطء حتى يذوب فى ذاكرتى ولا أتذكر سوى اسمه فقط.
قال: من أين لك بهذه القدرة!
قال: أول مرة قابلت فيها الموت كان فى مرض أبى الأخير، أتذكره ولا أنساه، رأيت أبى ينهض من السرير خشية الموت ويحاول أن يقف على قدميه دون مساعدة من أحد ولكنه لم يستطع وكنت بجواره فسقط منى وظللت أنادى عليه أبى.. أبى.. أبيييى.
أحاول أن أساعده لكى يقف مرة أخيرة لكنه لم يسمعنى أبدًا، يومها انفتحت نافذة جديدة فى عالمى ولجت منها إلى عالمه وتعرفت عليه، وظل ندائى على أبى فى ذاكرتى لم ينمحِ أبدًا.
تغير بنا الحديث فى أمور عدة. وتعرفت فيها على أغلب أحواله، كانت تشع من عينيه السعادة عندما يتحدث عن الكتابة والإلهام والإبداع، تطير من كلماته حمامات تحط على الجدران وتهدل عندما يسكت وتعود تطير حوله عندما يحكى حكاياته، لقد كان حكاءً له مستمعوه.
حتى نسيت من كثرة حكاياته أنه قال لى إنه قد رأى الموت.
إلى أن قابلنى فى لقاء أخير معه وأوقفنى وقال لى: لقد رأيته وسمعت صوته الذى زلزل كيانى كله، وقال لى تعالَ واقترب منى وعندها ابتعدت على آخر حدود المدينة، ورغم ذلك جاءنى صوته يقول: لقد اقترب الميعاد وأشار لى من بعيد بإشارة تدل على قرب الوصول إلىّ رغم اختبائى منه.
ثم حدثنى بأنه سافر مع صديقه الشاعر كامل عيد لحضور آخر مؤتمر أدبى لهما، وكان الشاعر مريضًا، وخشى أن يلقاه الموت هناك ويأخذه منه.
قال لى وهو يتألم: قلت له يا كامل عيد لا تموت وأنت معى بعيدًا عن السويس.. ضحك كامل عيد كثيرًا وقال له: سوف أموت فى السويس وليس خارجها بعد عمر طويل.
وقبل نهاية المؤتمر بساعات قليلة كان الموت قد أخذه معه ورحل.
قال لى محمد الراوى: علمت بموته وأنا نائم رأيته يلقى قصيدة وكانت مدهشة لدرجة جعلتنى أحمله وأطوف به أجواء المؤتمر من فرحتى بها وبه، كان يضحك بشدة وعندما أنزلته كانت فى عينيه بقايا دموع لم أعرف مصدرها، حركته يمينًا ويسارًا، أغمض عينيه وغابت الدموع وعلت وجهه تدريجيًا ابتسامة وقفت على الحد الفاصل بين البكاء والفرح، هى نفس ابتسامة أبى عندما غادرنا هى نفس الابتسامة التى تودعك فجأة وتظل ملامحها لا تفارقك.. ابتسامة تقول إنى قد اقتربت، إنى قد عرفت الآن.
طفت به وأنا أضعه على كتفى وأسير به صحراء واسعة ليست لها بداية ومعى غراب أسود يطير فوقى وعندما أتعب يدلنى على مكان أرتاح فيه أنا وهو، عندما أخذنى التعب ابتسم لى نفس الابتسامة التى بت أعرفها وحمله عنى وطار.
صحوت على يد تلمسنى وليس معى أحد، وتأتينى رسالة على الموبايل:
احضر حالًا.. كامل عيد مات.. وامتد حبل من السكات.
استمعت إليه وقلبى يتفتت من الحزن، كان ينظر فى عينى ويسألنى وقبل أن أجيب،
يقول: قولى لى ماذا أفعل؟
سبقتنى عيونى بالبكاء وقلت له:
أبعد عنك كل ما يقربه منه وأشغل نفسك بحكايات أخرى مبهجة، أريد أن أسمع هديل الحمام وأنت تحكى، لم يجبنى وصمت.
وعلمت بأنه لم يعد يخرج من البيت ولقد باح لى فى إحدى المرات القليلة التى كان يحدثنى أنا وغيرى أنه عندما ينظر من النافذة أصبح يرى الموت على جدران البيوت، ويراه ممددًا بطول الشوارع وعرضها، يراه بجواره ينام طوله فى طوله.
وظل يحكى عن موت الشاعر كامل عيد فى كل حديثه معى.
قال لى مرة إنه كان يسير معه بجوار الكورنيش ليذهبا للندوة الأدبية فى قصر الثقافة بالسويس، واندمج معه فى الحديث وفجأة شعر الشاعر كامل عيد بالتعب وطلب منه أن يركب تاكسى- رغم قرب المسافة- وبمجرد أن ركب التاكسى وضع رأسه على كتفه ونظر إلى البحر وعندها وجد الراوى طائر نورس يأتى من عمق الفضاء ويقترب من نافذة التاكسى حتى شعر بارتطام رأس الطائر بمدخل التاكسى وبعدها وجد رأس كامل عيد يميل على كتفه.
وسمعت منه فى مكالمة تليفونية أخرى أنه قد قابل كامل عيد فى ميدان الأربعين وأصر على أن يُسمعه قصيدة كتبها حديثًا، ولم يجدا مكانًا هادئًا سوى مدخل إحدى العمارات وعندما هم بقراءة القصيدة له ظهر طفل صغير يتفلت من يدى أمه ويجرى وسط الميدان، عندها ترك كامل عيد القصيدة فى يد الراوى وبكل طاقته عبر الميدان للحاق بالطفل الذى رآه الراوى يرتفع عن الأرض وكامل عيد وراءه حتى غابا عن نظره، وعندما فاق لم يجد سوى قصيدة كامل عيد الأخيرة بيده والناس تدور حول ميدان الأربعين كعادتهم.
وبعد مرور شهرين على فراق الشاعر كامل عيد كتب لى رسالة قال فيها إنه كان مع الشاعر كامل عيد فى أثناء تسجيل حلقة معهما لتليفزيون القناة على خليج السويس لتكريمه وبعض الشعراء. انحرفت فجأة الكاميرا من يد المصور ومالت فى الشارع واختل مسار السيارات حتى أن إحداها خرجت على الرصيف حيث كان يجلس كامل عيد فطار جسده إلى قمة عالية فوق جبل عتاقة ثم ارتطم ثانية بالشاطئ.
وقرأت له حديثًا صحفيًا فى جريدة محلية بالسويس عن فراق كامل عيد الذى أوجعه أن يحمله جثة ويعود به من المؤتمر الأدبى فى محافظة نائية فى سيارة إسعاف بعد صحبة لمدة يومين.
قابلته،
وقلت له: حتى تنسى.. عليك أن تشتت ذاكرتك، عندها نظر لى بعمق ولم يحدثنى بعدها أبدًا، وعلمت ساعتها أنه أعطى الأمر إلى ذاكرته ولم يعد يسيطر عليها، لقد درب نفسه على الهروب من الموت فهرب إليه، واقتحم تجويف ذاكرته وكان معنا يبتسم ويضحك ولا يرانا، كان الزهايمر قد سكنه وأمسك به الموت.