كان لى شرف المشاركة الأسبوع الماضى فى احتفال المركز القومى للترجمة بذكرى ميلاد المترجم والمفكر شوقى جلال، هذا العالم الذى ولد فى عام ١٩٣١، حيث كانت الحركة الوطنية المصرية فى أوج نشاطها، والدعوة للنهوض والتحرر من الاستعمار والفقر والفساد تسرى بين جنبات المصريين وتبشر بمستقبل يليق بمكانة مصر، فجر الضمير ومنبع الحضارة الإنسانية.
تربّى شوقى جلال مثلما تربّى أبناء جيله على قيم الحرية والتحرير والتغيير.. ثقافة التسامح مع المذاهب الفكرية والعقائد الدينية، وكانت مصر قِبلة المتعطشين إلى الحداثة من المثقفين العرب.. مصر هى الكلمة، ومصر هى الفعل.
ما يميز شوقى جلال أن اختياراته فى ترجماته تصب كلها فى مصلحة استعادة مصر اسمها وتاريخها، والتأكيد على قيم ثقافة الوعى بالذاتية التاريخية، مصر الوطن والمواطنة تستوعب الموروث بعقل نقدى جديد.
وما يلفت الانتباه فى سيرة دكتور شوقى جلال ما ذكره بنفسه من أنه تعلم فى مدرسة ثانوية خيرية؛ أى للفقراء، لكنه استمع فيها لأول مرة إلى فاجنر معزوفًا على شاشة مسرح المدرسة، وأتيح له فى مكتبة المدرسة الاطلاع على كتب، مثل «تاريخ الأديان فى العالم» دون حساسية أو انحياز، ومجلات ثقافية مثل: مجلتى، الرسالة، الثقافة، الكتاب، الكاتب، المقتطف، الفصول، البعكوكة.
فى هذه الفترة نشطت فى مصر حركة الترجمة العلمية المرتبطة بالهدف القومى واستيعاب علوم وفكر العصر، وتوظيف ذلك لبناء مصر الجديدة، فسعى إلى أن يكون إيجابيًا فى جهده بمداومة الفكر والتفكير دون قيود غير العقل الناقد، والاطلاع على كل جديد من غير انحياز أو عُقَد، رغم مرارة الفقر وسنوات الاعتقال السياسى المتقطع فى العهدين الملكى والجمهورى «١٩٤٨-١٩٦٥»، ولجأ إلى الترجمة كى يتجنب المنع والحظر وأن يتكلم بلسان غيره، مع إضافة رأيه فى مقدمة وهوامش.
فبدأ مشروعه فى الترجمة الذى جعل له عنوانًا: «تغيير العقل المصرى العربى»، عام ١٩٥٧م، بكتابين صدرا عن دار النديم هما: «السفر بين الكواكب» وهو أول كتاب علمى مترجم عن علوم ورحلات الفضاء، الذى صدر بمناسبة إطلاق الكلبة «لايكا» إلى الفضاء. والكتاب الثانى «بافلوف.. حياته وأعماله» وهو أيضًا أول كتاب علمى مترجم عن هذا العالم الروسى الفذ.
وتوالت ترجماته التى تجاوزت الستين، وكلها مختارات من بين قراءاته، وكلها ملتزمة بمشروعه الساعى إلى نشر العقل العلمى فى المجتمع المصرى والتحول عن ثقافة الكلمة إلى ثقافة الفعل. وإلى جانب الترجمة قدم خلاصة رؤيته للتاريخ والواقع فى مؤلفات بلغ عددها أربعة عشر عنوانًا، آخرها «الشك الخلاق فى حوار مع السلف»، وقد ركز فى كتاباته وترجماته على عدة قضايا:
أولًا: إعادة بناء الإنسان المصرى الذى تعمَّد الغزاة والحكام المستبدُّون سلخه عن تاريخه وعن هويته. والإجابة عن سؤال: ماذا أصاب الإنسان المصرى على مدى التاريخ حتى أصبح على هذه الحال من السلبية واللا مبالاة؟ ويرى شوقى جلال أن ما وصلنا إليه هو نتيجة لغياب قيمة مغامرة المعرفة واكتشاف المجهول وحرية السؤال والبحث وحق الاختلاف، وأن أول معالم الطريق إلى النهضة الحضارية إنما يتجلى بدايةً فى سقوط هيبة السلف والفكر السلفى وعبادة السلف فى أذهان العامة؛ ومن ثَم إحلال ثقافة التغيير والتطوير باعتماد العقل العلمى النقدى. ونشر هذه الثقافة فى القرى والنجوع وبين الفلاحين.
ثانيًا: الحاجة إلى دراسة العلاقة العكسية بين الاستبداد والإبداع.. الاستبداد يصنع روبوتًا فضيلته الطاعة دون حق السؤال، والحرية هى صانعة الإنسان.
ثالثًا: مسئولية المثقفين المصريين عن واقع حال مصر الراهن؛ إذ بدأ المثقف الحديث موظفًا تابعًا للسلطة الحاكمة، وقد نشأ وتربى على ثقافة الطاعة، بينما المثقف المستنير هو من يحافظ على مسافة نقدية فاصلة بينه وبين ذوى السلطان- أى سلطة دينية أو سياسية أو عقائدية- لكى تتهيأ له فرصة الرؤى فى عقل نقدى ينير بها الطريق إلى المستقبل.
رابعًا: ضرورة خلخلة التراث الحاكم الثقافة الشعبية السائدة التى امتدت مع حالة الركود الاجتماعى قرونًا. ويستلزم هذا تحولًا حقيقيًا وموضوعيًا من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير.. من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة.
خامسًا: إن ثقافة العلم لا تنشأ ولا تسود لتمثل مناخًا عامًا إلا فى مجتمع مُنتجٍ للعلم، هو وطن للعلم؛ ومن ثَم تكون ثقافة العلم عامل دعم وحفز نحو المزيد.. المزيد من الإنجاز، والمزيد من الاستمتاع بالحياة، من حيث الفهم لظواهر الحياة، والفهم لقواعد إدارة الحياة.
ما قدمه شوقى جلال يستحق أن يكون محل حوار مجتمعى يستند إلى أسس عقلانية، للوصول إلى سبيل لاستعادة مصر المسلوبة، مصر التى وصفها فى مذكراته «سنوات العمر حصاد الهشيم»: أرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق فى وحل اللا معقول الموروث. مصر لم تعد مجتمعًا، بل تجمعًا سكنيًا لغرائز منفلتة.. أفتقد مصر الحلم الحافز/ مصر الوعى الموحد تاريخيًا/ مصر الوطن والمواطنة/ مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية.. مصر المستقبل.. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب.. ولكن تحت الرماد جذوة نار قد تتأجج ويشتد لهيبها.. ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل.. هكذا علّمنا التاريخ.. ومياه النيل لا ترتد أبدًا إلى الوراء.