يعيد كتاب “النساء الحاكمات: من الجواري والملكات” للكاتب والمفكر والاكاديمي العراقي يحيى الجبوري، فتح ملف ظل طويلًا مهمشًا في الكتابة التاريخية، كاشفًا أدوار نسائية فاعلة في الحكم وإدارة الدولة، سواء عبر اعتلاء العرش مباشرة أو من خلال ممارسة السلطة من خلف الستار.
يذهب الكتاب إلى تفكيك السردية التقليدية التي حصرت النساء في الهامش، مؤكدًا أن التاريخ السياسي لم يكن حكرًا على الرجال، بل شهد حضورًا نسويًا مؤثرًا ارتبط بتعقيدات السلطة وظروفها.
تقوم بنية الكتاب على محورين أساسيين: الجواري الحاكمات في العالم الإسلامي، والنساء الحاكمات قبل الإسلام وبعده، يأتي ذلك في محاولة لتقديم قراءة ممتدة زمنيًا وجغرافيًا لظاهرة تولي النساء الحكم.
ويبرز المؤلف كيف تحولت بعض الجواري، رغم وضعهن الاجتماعي المتدني، إلى لاعبات أساسيات في مراكز القرار، مستفيدات من صراعات القصور وضعف الخلفاء وتشابك نظام الوراثة.
شجر الدر.. السلطة في زمن الأزمات
تُعد شجر الدر النموذج الأبرز لامرأة انتقلت من موقع الجارية إلى سدة الحكم، ويذكر المؤرخون أنها سجلت في حريم الخليفة ببغداد عام 1239، وعندما كان عمرها 11 سنة نقلت من بغداد إلى القاهرة وقدمت إلى ولي العهد الأمير نجم الدين، الابن الأكبر للحاكم الأيوبي نصر الدين، ورافقتها في أكثر المواقف العصيبة التي عاشها، فقد حملت شجر الدر من سيدها نجم الدين، وأنجبت طفلًا سمته خليل، ومنذ ذلك الوقت أصبح يشار إليها باسم "أم خليل".
كانت لشجر الدر سطوتها، التي جعلت من السلطان أن يقدم على تعيينها نائبه له في أوقات سفره، فكانت تقوم بختم المراسيم، وتصدر الأوامر والتعليمات وتسير شؤون البلاد، فبعد وفاة السلطان الصالح نجم الدين أيوب أثناء الحملة الصليبية السابعة، تولت إدارة شؤون الدولة في لحظة مصيرية، أخفت خبر الوفاة، وأدارت المعركة سياسيًا وعسكريًا، وانتهت الأزمة بأسر لويس التاسع، ثم أعلنت نفسها سلطانة على مصر عام 1250م، لتثبت أن الكفاءة السياسية قادرة على كسر القيود الاجتماعية.
الخيزران.. حكم بلا لقب
على النقيض من شجر الدر، تمثل الخيزران نموذج السلطة غير المعلنة، قيل إنها كانت جارية ثم زوجة للخليفة المهدي، وأمًا لهارون الرشيد، لم تحمل لقب الحاكمة، لكنها مارست نفوذًا مباشرًا في إدارة الدولة العباسية، فكانت تستقبل الوفود، وتشارك في تعيين الولاة، وتؤثر في القرار السياسي، ويشير الكتاب إلى أن صدامها مع ابنها الخليفة الهادي يعكس الخوف الذكوري من سلطة نسوية تتجاوز الأدوار التقليدية.
نماذج تتجاوز الجغرافيا
لا يحصر الكتاب الظاهرة في المركز العربي، بل يقدم نماذج أخرى، من بينها رضية الدين سلطانة دلهي في القرن الثالث عشر، التي حكمت في مجتمع شديد الذكورية، وقادت الجيوش، وظهرت علنًا بوصفها حاكمة كاملة الصلاحيات.
كما يستعرض نموذج أروى بنت أحمد الصليحية، ملكة اليمن، التي حكمت لأكثر من أربعة عقود، وجمعت بين السلطة السياسية والدينية، ونجحت في تحقيق استقرار طويل الأمد.
يفرد الكتاب مساحة لنماذج لم تحكم رسميًا، لكنها مارست تأثيرًا بالغًا، مثل زبيدة زوجة هارون الرشيد، التي ارتبط اسمها بالمشروعات العمرانية الكبرى، وعلى رأسها «عين زبيدة» لخدمة الحجاج. ويبرز هذا النموذج مفهوم «السلطة الناعمة»، حيث يُمارس النفوذ عبر المال والعمران والتأثير الاجتماعي.
لا يكتفي الكتاب بسرد الوقائع، بل يطرح سؤالًا جوهريًا حول تغييب النساء في التاريخ: هل كان غيابهن حقيقيًا أم نتاج كتابة انتقائية؟ ويخلص إلى أن النساء كنّ جزءًا من صناعة القرار، لكن جرى تهميش أدوارهن في السرديات الرسمية.


















0 تعليق