فيما اُعتبرت أولى خطواته العملية والتنفيذية لسيطرته على (غرينلاند) -أكبر جزيرة في العالم وتتمتع بحكم ذاتي تحت سيادة الدنمارك- قام الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) (الإثنين22 ديسمبر 2025م) بتعيين حاكم ولاية لويزيانا (جيف لاندري) مبعوثا خاصًا له إليها. مبرّرًا خطوته تلك بأهمية الجزيرة لأمن أمريكا القومي، وأمن حلفائها، وحتى لأمن العالم أجمع، وليس طمعًا في معادنها النادرة. فيما أكد (ﻻندري) أنه سيعمل من جانبه على جعلها جزءًا من أمريكا.
يُذكر أن ترامب قد أبدى خلال فترته الرئاسية الأولى اهتمامًا مبدئيًّا بضمّ غرينلاند شراءً من الحكومة الدنماركية، ثم أعاد طرح فكرته تلك خلال فترته الثانية في شهورها الأولى، قائلًا إنه ﻻ يستبعد ذلك. ولم يكتف بذلك؛ إذ أوفد نائبه (جي دي فانس) (مارس2025م) إليها؛ ما أثار حينها استياءً بالغًا لدى حكومتي الدنمارك وغرينلاند؛ إذ جاءه رد رئيس وزراء غرينلاند وقتها (موتي إيجيده) بأنها ليست للبيع، ومن ثمّ لن تباع أبدًا. واليوم يأتي تعيينه مبعوثًا خاصًّا إليها ليعيد تلك القضية إلى الواجهة مرة أخرى؛ الأمر الذي رفضه رئيسا وزراء الدنمارك وغرينلاند، ميتي فريدريكسن وينس فريدريك نيلسن، حذرا فيه أمريكا من أيّة محاولة للمساس بالسلامة الإقليمية المشتركة.
ويُذكر، أيضًا، أنه قد صرح بضمّ (كندا) هي الأخرى إلى أمريكا؛ فبعد زعمه ولأول مرة في (ديسمبر 2024م) عن رغبة الكثيرين من الكنديين في هذا الاندماج، وأن يصبحوا الولاية (51) راح يكررها جادًّا هذه المرة بعد ساعاتٍ فقط من استقالة (جاستن ترودو) (6يناير2025م)، رئيس وزرائها السابق، تارة بالترغيب بإلغاء التعريفات الجمركية وخفض الضرائب فضلًا عن الحماية من تهديد السفن الروسية والصينية، وأخرى بالتهديد باستخدام القوة الاقتصادية ضدها. ولم يكد ينتهي من تهديداته وقتها حتى أكدت كندا رسميًّا، وعلى لسان ترودو أنها لن تتراجع أبدًا عن تهديداته، وأنها لن تكون أبدًا جزءًا من أمريكا ( الإفّيه وعلامات الاستفهام كان في رد (إيلون ماسك) -إذ كان وزيرًا في إدارة ترامب حينها- على (ترودو): يا فتاة لستِ حاكمة كندا الآن لذا لا يهم ما تقولينه).
كما أعلن، تزامنًا مع ذلك، عن نيته في إعادة السيطرة على قناة بنما خلال فترة رئاسته الثانية ذاكرًا أنه قد يلجأ إلى الحلول القسرية سواء بالقوة أو الضغط الاقتصادي في سبيل ذلك. كما نشر عبر حسابه بموقع (Truth social)(7يناير2025م) خريطة تظهر فيها غرينلاند جوار كندا وأمريكا باللون نفسه، وذلك بعد نشره تعليقًا له على صورة تظهر خريطة موحدة لأمريكا مع كندا تحت العلم الأمريكي قائلًا: أوه كندا.
وبعيدًا عن الأهداف الإستراتيجية من تلك المقترحات والخطوات المجنونة لترمب وسعيه نحو ضمّ تلك المناطق، والتي ستضمن له -إن تحققت جدلًا- تفوقًا إستراتيجيًّا مطلقًا عسكريًّا واقتصاديًّا، وغير ذلك مما بات معلومًا وحتى مصرّحًا به ولا يخفى على متابع إلا أن ذلك يكشف من جانبٍ عن عقيدةٍ إمبريالية راسخة ومقيتة لدى هؤلاء القوم رغم نِعم الله عليهم، وطمعهم المطلق فيما لدى الغير، مطلق الغير فالكل بالنسبة لهم سواء. تخيّل نفسك آمنّا مطمئنًا في بيتك ووطنك وهناك مَن يعملُ جهده ويخطط لك ليحرمك كل هذا ويحتلّ بيتك وأرضك. ولعل في محاصرته لفنزويلا اليوم، والتي باتت بثرواتها في مرمى نيرانه، ومصادرته لناقلات نفطها، وتهديده باجتياحها تحت مزاعم لم تختلف عن مزاعمهم يومًا في نهب ثروات دول أخرى، دليل آخر على ذلك.
ويكشف من آخر عن أسلوبهم في بلوغ أهدافهم تلك حتى مع الكبار دون كللٍ منهم أو مللٍ، وهو ما نلمحه في قول ترامب نفسه حينها عن كندا بأنه لم يعد بإمكان أمريكا تحمّل العجز التجاري الهائل والإعانات التي تحتاجها كندا لتبقى واقفة على قدميها. إذن يُغرقون غيرهم بالإعانات حدّ اعتمادهم على ذلك تمامًا وفي لحظةٍ ما يُجهِزون على فريستهم في سهولة ويسر كما الحال مع كندا، وتارة أخرى يبلغون ذلك بالدسائس والأسافين، وثالثة بالقوة العسكرية تلويحًا وتهديدًا وفعلًا مثلما لوّح بها ترمب كندا وبنما. والغريب استعمالهم لأساليبهم تلك جميعها معنا ولا تزال.
لكن، والأهم من ذلك كان في الموقف الغربي الرافض لذلك بشكل قاطع وقتها -وحتى اليوم دعمًا للدنمارك وغرينلاند- إذ علّق (شولتس) مستشار ألمانيا السابق نفسه عن نيّة ترامب ضم غرينلاند بقوله: إن حرمة الحدود مبدأ أساسي في القانون الدولي، ولا يمكن تغيير الحدود بالقوة، ويجب على أي دولة أن تلتزم بهذا المبدأ سواء كانت دولة صغيرة أو دولة قوية جدًّا. ومن الواضح أن الوضع الأمني في أوروبا سيظل متوترًا في المستقبل القريب. ولعل في قول (شولتس) هذا ما يكشف دون أدنى لبسٍ قبح هذا الغرب، ويسقط عنه كامل أقنعته الزائفة؛ فألمانيا هذه كانت المفاجأة الكبرى مدة أكثر من عامين، هي مدة إبادة الكيان لأهلنا في غزة، إذ كانت وبإيجاز رأس حربةٍ دفاعًا عنه لا لشيء سوى دعمه احتلال أرض الغير بالقوة. عندما يتعلق الأمر بحدود دولة أوربية تكون الحُرمة وعندما يكون الأمر بحدودنا يكون الدعم المطلق حدّ إبادة أصحاب الأرض.
على أية حالٍ، وانطلاقًا من تصريح (شولتس) وقتها بأن الوضع الأمني في أوروبا سيظل متوترًا في المستقبل القريب -وهو ما أكدته حينها جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا بضم ترمب مزيد من الأراضي- يكون التمني أنْ لو كان لنا مبعوثٌ للسلام -كمبعوثيهم المقيمين لدينا منذ عقودٍ- للسعي بين هؤلاء القوم؛ تارةً إلى ترمب يحُثّه على الضمّ وتغيير خليج المكسيك ليصبح خليج أمريكا ودخول التاريخ بإمبراطورية أمريكية لم يشهدها التاريخ من قبل ويُعظّمَ ذلك لديه، وتارةً إلى كندا وبنما وغرينلاند والدنمارك وكامل أوروبا والمكسيك بالتأكيد على ضرورة التصدّي لتلك الطموحات الإمبريالية، وضرورة الاستعداد لذلك جيدًا؛ ربما وقتها ينشغلون عنّا، ويتجرّعون كأسًا لطالما سقونا منه.
ولعل من اللافت حينها أن خريطة ترمب الجديدة وطموحاته في ضمّ أراضي غيره تزامنت مع خريطة نتنياهو هي الأخرى، وطموحاته في ضمّ أراضي غيره؛ لنخلص إلى أنّ أمريكا الكبرى هذه -وكما أسمّيها- هي هي إسرائيل الكبرى، فقط كلٌّ في محيطه، ربما بهدف فتح المحيطينِ على بعض. ولا عجب فكلاهما عائِلُه واحدٌ وبِذرتُه واحدة وفكرته خبيثة، كلاهما بُذِر في غير أرضه ورُوي وغُذِّى من دماء أصحاب الأرض، كلاهما وُلد سفاحًا.
وفي الأخير -وفيما أرى- لعل ترمب لم يكن مبدعًا في كل طروحاته تلك، وإنما كانت مع غيرها حبيسة مصباح البيت الأبيض السحري، وأدراج مكتبه البيضاوي، فقط حكّه ليُخرج منه ماردَه ببعضها ليقلب الموازين رأسًا على عقب.

















0 تعليق