تتشكل علاقتنا بالأماكن منذ اللحظة الأولى التي نخطو فيها داخلها، لكنّ الغريب أن الارتباط العاطفي الأعمق غالبًا ما يكون من نصيب الأماكن القديمة، لا الحديثة.
وتستدعي البيوت العتيقة، والشوارع الضيقة، والمدارس الأولى، شعورًا بالحنين لا تصنعه أحدث المباني ولا أفخم المجمعات، ويكشف هذا التعلق عن علاقة إنسانية معقدة بين الذاكرة والمكان والهوية، علاقة تتجاوز الجدران لتلامس الوجدان، وتؤكد دراسات علم النفس البيئي أن الذاكرة العاطفية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل هذا الارتباط، وفقًا لجمعية علم النفس الأمريكية (American Psychological Association).
سر الارتباط بالأماكن القديمة والحنين إليها
يرتبط المكان القديم بالذكريات الأولى، وهي ذكريات تتسم بالقوة والتأثير لأنها تشكلت في مراحل مبكرة من العمر، وتسجل الذاكرة تلك اللحظات مقرونة بالمشاعر، فتتحول الأماكن إلى أوعية تحفظ الفرح والحزن والنجاح والفشل.
كما يعيد المرور بالمكان نفسه تنشيط هذه المشاعر دفعة واحدة، وكأن الزمن يعود إلى الوراء، وهو ما لا تستطيع الأماكن الجديدة تحقيقه بسهولة لأنها تفتقر إلى هذا الرصيد الوجداني.
وتعزز الأماكن القديمة الإحساس بالأمان والاستقرار النفسي، لأنها معروفة التفاصيل وحدودها مألوفة، ويمنح هذا الأمان شعورًا بالسيطرة على المحيط، وهو احتياج نفسي أساسي لدى الإنسان، فيما يفسر علماء النفس ذلك بأن العقل يميل إلى ما هو متوقع ومجرب، فيجد راحته في الأماكن التي لا تحمل مفاجآت، بعكس الأماكن الجديدة التي تتطلب جهدًا ذهنيًا للتكيف معها.
وتعكس الأماكن القديمة جزءًا من الهوية الشخصية والجماعية في آن واحد، كما تحمل الحواري الشعبية، والمنازل العائلية، والمقاهي القديمة، ملامح ثقافية واجتماعية تشكل وعي الأفراد، فيشعر الإنسان أن فقدان هذه الأماكن هو فقدان لجزء من تاريخه، لذلك يدافع عنها ويحنّ إليها حتى لو تغيرت ملامح حياته، وتوضح هذه العلاقة كيف يصبح المكان شاهدًا على التحولات الشخصية والاجتماعية معًا.
كما تقاوم الأماكن القديمة عامل الزمن في الذاكرة، بينما لم تحصل الأماكن الجديدة بعد على فرصة التراكم العاطفي، وتحتاج العلاقة بالمكان إلى وقت وتجارب مشتركة حتى تنضج، وهو ما يفسر برودة المشاعر تجاه أماكن حديثة مهما بلغت فخامتها، فيثبت الزمن أن القيمة الحقيقية للمكان لا تُقاس بعمره الزمني، بل بعمره الشعوري داخلنا، فتبقى الأماكن القديمة حاضرة لأنها احتضنت لحظات التكوين الأولى، فصارت جزءًا لا ينفصل عن الذاكرة والروح، بينما تظل الأماكن الجديدة في انتظار أن تُكتب فوق جدرانها قصص تستحق البقاء.










0 تعليق