نشر المكتب الاتحادي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية "جهاز الاستخبارات العسكرية الدنماركي" تقريره السنوي حول التهديدات التي تواجه البلاد والقارة. وورد فيه ذكر واشنطن فيه لأول مرة كتهديد للبلاد.
تُعدّ الدنمارك رائدةً في تشديد سياسات الهجرة في أوروبا، وهي أيضًا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تعتبر الولايات المتحدة رسميًا تهديدًا. وقد نشر جهاز الاستخبارات العسكرية الدنماركي تقريره السنوي حول "الآفاق" التي يجب مراقبتها لضمان أمن المملكة والقارة الأوروبية في المستقبل القريب.
وإذا صدّقنا ما كتبه رئيس الجهاز، توماس أهرنكيل، في مقدمة الوثيقة، فسيكون هناك العديد من الأسباب: "تواجه مملكة الدنمارك تهديدات وتحديات أمنية أكثر خطورة بكثير مما واجهته منذ سنوات عديدة". ومن بين هذه الأسباب، ذكر "تزايد التنافس بين القوى الكبرى في القطب الشمالي، ورغبة الصين في لعب دور مهيمن، وخطر الإرهاب الإسلامي"، حسبما ذكرت صحيفة "لوفيجارو" فى تقرير شامل.
التهديد الإسلامي لا يزال في المقدمة
بالنسبة لجهاز الأمن والاستخبارات الدنماركي، لا يزال الإرهاب الإسلامي أحد أبرز التهديدات التي تواجه الدنمارك، بل وأوروبا عمومًا. ويُظهر الجهاز هذا الجانب من تقريره بصورة لضباط شرطة فرنسيين يُفتشون موقع هجوم بسكين نفذه إسلامي في فبراير 2025 في مدينة مولوز (أو مولهاوس حسب الاسم الألماني/الألزاسي لها). وكتب جهاز الاستخبارات الدنماركي: "ازداد عدد الهجمات الإرهابية الإسلامية التي نُفذت وأُحبطت في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، ولا يزال عند مستوى مرتفع في عام 2025. ومن المرجح أن يبقى هذا المستوى مرتفعًا في عام 2026". وأشار الجهاز إلى أن ألمانيا والنمسا وفرنسا كانت أكثر الدول الأوروبية تضررًا.
وتابع التقرير: "لا تزال الغالبية العظمى من الهجمات ومحاولات الهجمات تُنفذ من قبل إسلاميين يعملون بمفردهم أو ضمن شبكات صغيرة"، موضحًا أن بعضهم كان على اتصال مسبق بجماعات إسلامية مثل تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان (داعش-خراسان). وهكذا، في عام 2025، نُفذت تسع هجمات إسلامية في أوروبا، وتم إحباط 23 منها. وفي عام 2024، نُفذت ست هجمات، وتم إحباط 28 منها. وهذا العدد أعلى بكثير من السنوات السابقة، حيث لم تُنفذ سوى ثلاث هجمات في عام 2023، وهجمة واحدة في عام 2022، وأربع هجمات في عام 2021. ويُعزى هذا الارتفاع، أولًا، إلى "بساطة" الهجمات، إذ تدعو المنظمات الإسلامية إلى تكثيف الهجمات باستخدام وسائل متاحة بسهولة (كالسكاكين والسيارات وغيرها)، وثانيًا، وبشكل خاص، إلى السياق الجيوسياسي. وجاء في التقرير: "يدعو تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية بانتظام المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى الثأر لمذبحة الفلسطينيين في غزة. وسيظل الصراع مصدر إلهام للإسلاميين"، قبل أن يشير أيضًا إلى مسؤولية إيران في استخدام "وسطاء تجندهم في أوروبا، ضمن دوائر إجرامية"، لتنفيذ هجمات على الأراضي الأوروبية.
بحسب التقرير، يرتبط التهديد الإسلامي ارتباطًا وثيقًا بـ"الهجرة غير النظامية". ولا يُعدّ هذا الارتباط مفاجئًا، نظرًا لسياسة الهجرة الدنماركية، التي تُعتبر أكثر صرامةً من سياسات بقية دول أوروبا، حيث تُقرّ المملكة صراحةً بالتزامها بـ"مكافحة المجتمعات الموازية" التي تشكّلت داخل حدودها في السنوات الأخيرة. ووفقًا للمكتب الاتحادي الدنماركي للهجرة واللاجئين، فإنّ الوضع "غير المستقر" في الشرق الأوسط، ولا سيما في سوريا - حيث "استفاد تنظيم الدولة الإسلامية من هامش أكبر في عام 2025 نتيجةً لانخفاض الضغط الأمريكي" - قد يدفع التنظيم إلى مهاجمة السجون في المناطق الكردية لتحرير نحو 10000 عضو من التنظيم محتجزين هناك. ويضيف التقرير: "إذا حدث نزوح جماعي لأعضاء تنظيم الدولة الإسلامية من هذه السجون، فسيتفاقم التهديد الإرهابي في أوروبا.. ومن المرجّح أن يرغب العديد من أعضاء التنظيم المنحدرين من أوروبا في تنفيذ هجمات إرهابية أو دعمها في بلدانهم الأصلية". ويضيف التقرير: "تتأثر النساء أيضًا. فهن يشكلن غالبية السجينات، وهن أكثر إمكانية من ذي قبل للتواصل مع المتطرفين في أوروبا".
الصين في التقرير
يتناول تقرير جهاز الاستخبارات الدنماركي أيضًا، على امتداد نحو عشر صفحات، حالة الصين، التي "تمارس ضغوطًا متزايدة على العالم بفعل ثقلها الاقتصادي والعسكري". فعلى الرغم من أن ميزانيتها العسكرية "لا تمثل سوى نحو ثلث ميزانية الولايات المتحدة"، فإن البلاد تُنتج سنويًا "ثلاثة أضعاف عدد السفن الحربية الجديدة، وتبني طائرات مقاتلة حديثة أكثر مما تبنيه الولايات المتحدة". وهو أسطول ضخم قد تُقدِم بكين قريبًا على إرساله إلى تايوان، مما قد يفضي إلى صراع محتمل مع الولايات المتحدة واليابان.
في غضون ذلك، تعمل بكين، التي تطمح إلى لعب "دور ريادي في العالم"، "بشكل مدروس على الحد من النفوذ الغربي على السياسة الدولية، بهدف تقديم نفسها كبديل للولايات المتحدة"، وفقًا للتقرير. ولتحقيق هذه الغاية، "تسعى الحكومة الصينية باستمرار إلى دمج وجهات نظرها في الوثائق السياسية للمنظمات الدولية كالأمم المتحدة، ولا سيما من خلال تقديم حقوق الإنسان بصورة منهجية على أنها ليست ذات طابع عالمي".
بالنسبة للدنمارك، فإن "أكبر تهديد" تشكله الصين على المملكة ليس سوى "تجسسها" لسرقة المعلومات أو التقنيات الحساسة، والتي تمنحها، من بين أمور أخرى، مزايا كبيرة في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الكم، والتكنولوجيا الحيوية. "لقد جعلت الصين هذه المجالات أولوية، وقد تثبت أهميتها البالغة في حال نشوب صراع مع الغرب". وتستشهد المخابرات الدنماركية بمثال اعتقال جيان جو في ألمانيا عام 2024. فقد حُكم على هذا العضو في البرلمان الأوروبي عن حزب البديل من أجل ألمانيا في سبتمبر 2025 بالسجن أربع سنوات وتسعة أشهر بتهمة تسريب معلومات سرية من البرلمان الأوروبي إلى جهاز مخابرات صيني لأكثر من أربع سنوات. وتتعلق هذه المعلومات، كما يُزعم، بطائرات عسكرية غربية.
المجتمع الروسي "المُلقَّن"
لكن التهديد الأكثر إلحاحًا في نظر جهاز الاستخبارات الدنماركي هو بلا شك تهديد موسكو، التي "من المرجح أن تستمر حربها بعد عام 2025". وتعتقد الدنمارك، التي تشارك بذلك رأي غالبية الدول الأوروبية، أن "روسيا تعرب علنًا عن استعدادها للتفاوض، لكنها لا تزال تقدم مطالب واسعة النطاق لأوكرانيا وحلف شمال الأطلسي ولا يوجد ما يشير إلى أن روسيا مستعدة لتقديم تنازلات حقيقية من أجل اتفاق سلام "
والأسوأ من ذلك، أن روسيا "تستعد لحرب ضد حلف الناتو "، نظرًا لإعادة تسليحها المستمرة و"تزايد عسكرة المجتمع، حيث أصبح التدريب العسكري إلزاميًا في جميع مراحل النظام التعليمي وفي كبرى الشركات المملوكة للدولة". ووفقًا للدنماركيين، يستخدم الكرملين الآن "دعاية واسعة النطاق" لتعزيز المشاعر المعادية للغرب في المجتمع الروسي، "مُرسخًا في أذهان الأجيال الجديدة فكرة الصراع الأبدي بين روسيا والغرب". ويشير التقرير إلى أن هذا "التلقين" ستكون له "عواقب سلبية طويلة الأمد على علاقات روسيا مع الغرب، تمتد لما بعد حياة بوتين السياسية. ومن المرجح أن يواصل خليفة بوتين سياسة المواجهة مع الغرب"
وبغض النظر عن الأيديولوجيا، يتزايد إنتاج الأسلحة. وتؤكد أجهزة الاستخبارات الدنماركية أن "الصناعة العسكرية الروسية، منذ عام 2024، باتت قادرة على إنتاج معدات وذخائر تفوق ما تنفقه البلاد على الحرب في أوكرانيا". وتحذر هذه الأجهزة قائلة: "إذا انتهت الحرب في عام 2026، فستحافظ روسيا على هذا المستوى العالي من الإنتاج، وبالتالي ستكون أقوى في مواجهة أوروبا إذا لم تُترجم الدول الأوروبية وعودها بالاستثمار في الدفاع إلى قوة قتالية حقيقية".
يزداد تهديد القارة العجوز مع استمرار روسيا في إلحاق الضرر بها عبر "الحرب الهجينة"، التي تعتبرها السلطات الدنماركية "الوسيلة الأكثر فعالية لتحدي حلف الناتو وإضعافه". تشمل هذه الهجمات "الهجينة" هجمات إلكترونية ضد الشركات والمؤسسات، وتعطيل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وتخريب البنية التحتية، فضلًا عن التجسس. وتؤكد المخابرات الدنماركية أن "عملاء روس يتجسسون على مملكة الدنمارك منذ عقود". وتضيف: "يستهدفون في المقام الأول المعلومات (العسكرية أو التقنية) التي قد تمنح روسيا الأفضلية في حال نشوب حرب ضد حلف الناتو"، وذلك من خلال استهداف شركات الدفاع أو وزارات القوات المسلحة.
وصف الدنماركيون اختراق الطائرات المسيرة الروسية للمجال الجوي البولندي في خريف عام 2025 بأنه "استفزاز متعمد"، وجاء في التقرير أيضًا: "ربما كان الهدف منه اختبار ردود فعل حلف الناتو وإثارة حالة من عدم اليقين بشأن مدى استعداد روسيا للذهاب بعيدًا". كما أفاد جهاز الاستخبارات الدنماركي بأن إنتاج روسيا من الطائرات المسيرة قصيرة المدى قد ارتفع من حوالي 100 طائرة في عام 2022 إلى مليوني طائرة في عام 2025، وأن إنتاج الطائرات المسيرة طويلة المدى قد ارتفع من 500 طائرة إلى 35 ألف طائرة.
الولايات المتحدة تعتبر لأول مرة تهديدًا
لكن الجانب الأكثر إثارة للدهشة في التقرير هو القسم الذي يتناول التهديد الأمريكي. إذ تدين عدة فقرات فيه الطموحات المفرطة للولايات المتحدة في عهد إدارة ترامب، لا سيما في القطب الشمالي. وتتهم الدنمارك واشنطن بممارسات عدوانية في هذه المنطقة القطبية، وذلك بعد أشهر فقط من إعلان دونالد ترامب عن طموحاته بضم جرينلاند إلى الولايات المتحدة.
يلخص جهاز المخابرات الدنماركي قائلًا: "تتمتع منطقة القطب الشمالي بأهمية عسكرية استراتيجية بالغة، لا سيما وأن غالبية الصواريخ الباليستية من روسيا والصين والولايات المتحدة ستحلق فوقها في حال نشوب حرب كبرى بين دولتين أو أكثر ". ويشير التقرير إلى "تزايد اهتمام الولايات المتحدة بجرينلاند وأهميتها للأمن القومي الأمريكي"، ويخلص إلى أن هذا "يزيد من خطر التجسس، بما في ذلك التجسس الإلكتروني، ومحاولات بسط النفوذ على جميع أنحاء مملكة الدنمارك".
في صفحة أخرى، تؤكد الدنمارك أنها تشكك في دور واشنطن كضامن للأمن الأوروبي في حال نشوب نزاع مسلح بين روسيا وأوروبا. وتضيف أن روسيا "ستكون على الأرجح أكثر ميلًا لمواجهة الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو إذا سحبت الولايات المتحدة المزيد من قواتها من أوروبا". والأسوأ من ذلك، أن "التوازن بين الأولويات الاستراتيجية الأمريكية ليس واضحًا دائمًا.. فالولايات المتحدة تستخدم قوتها الاقتصادية، لا سيما في شكل تهديدات بفرض تعريفات جمركية عالية، لفرض إرادتها، ولم تعد تستبعد استخدام القوة العسكرية حتى ضد حلفائها"، كما يعترف جهاز الأمن والاستخبارات الدنماركي.
هذه هي المرة الأولى التي يجرؤ فيها جهاز استخبارات أوروبي على اعتبار واشنطن تهديدًا، ما يُعد مؤشرًا على التوتر الشديد الذي يشهده الاتحاد الأوروبي حاليًا.











0 تعليق