في عام ١٩٦٥، على أحد أعلى وأصعب جبال الهيمالايا، انحرفت مهمة استخباراتية أمريكية سرية عن مسارها بشكل كارثي. ففي خضمّ محاولة إنقاذ الأرواح خلال عاصفة ثلجية قرب قمة ناندا ديفي، تُرك مولد نووي أمريكي الصنع يعمل بالبلوتونيوم على الجليد. وبعد مرور ما يقارب ستين عامًا، لم يُعثر عليه قط، ولا تزال الولايات المتحدة ترفض الاعتراف علنًا بهذه العملية، حسبما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير شامل حول هذا الأمر.
ما تبقى مدفونًا تحت الصخور والجليد ليس مجرد أثر من آثار التجسس خلال الحرب الباردة، بل هو مصدر مستمر للمخاوف البيئية، والحساسيات الدبلوماسية، والأسئلة التي لم تُجب عليها، والتي تمتد من واشنطن إلى نيودلهي.
خطة سرية للتجسس على الصين
انبثقت هذه المهمة من حالة الذعر التي سادت واشنطن بعد تفجير الصين لأول قنبلة ذرية لها في أكتوبر (1964). ونظرًا لقلة المعلومات الاستخباراتية المتاحة داخل الصين، وضعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية خطة جريئة: زرع جهاز تنصت يعمل بالطاقة النووية في أعالي جبال الهيمالايا لاعتراض بيانات القياس عن بُعد اللاسلكية من تجارب الصواريخ الصينية.
كان مصدر الطاقة المُختار هو مولد SNAP-19C المحمول، الذي يعمل بالبلوتونيوم، وهو مشابه لتلك المستخدمة في مهمات الفضاء الأولى. يزن المولد حوالي 23 كيلوجرامًا، ويحتوي على البلوتونيوم-239 وكميات أكبر من البلوتونيوم-238، وهي مادة شديدة الإشعاع تُنتج حرارة لعقود.
ولحمله، جندت وكالة المخابرات المركزية نخبة من متسلقي الجبال الأمريكيين في سرية تامة، بقيادة باري بيشوب، المصور الشهير في ناشيونال جيوغرافيك، وتعاونت سرًا مع المخابرات الهندية. لم يكن يعلم بالهدف الحقيقي سوى عدد قليل من المسؤولين في كلا البلدين.
كارثة قرب القمة
اختيرت قمة ناندا ديفي، التي ترتفع إلى 25،645 قدمًا، لإطلالتها البانورامية على الأراضي الصينية. وكانت أيضًا من أخطر مسارات التسلق في العالم.
في أكتوبر (1965)، وبينما كان المتسلقون يقتربون من القمة، هبّت عاصفة هوجاء. هبت الرياح، وانعدمت الرؤية، وهددت الانهيارات الثلجية الحافة الضيقة. خوفًا من هلاك الفريق إذا حاولوا النزول بالمعدات الثقيلة، أمر النقيب إم. إس. كوهلي، القائد الهندي، المتسلقين بتأمين الجهاز في المخيم الرابع والانسحاب.
رُبط المولد - الذي يحتوي على ما يقارب ثلث البلوتونيوم المستخدم في قنبلة ناجازاكي - بحافة جليدية وتُرك هناك.
عندما عاد الفريق في ربيع العام التالي، اختفت الحافة. يبدو أن انهيارًا ثلجيًا قد جرف الجهاز إلى النهر الجليدي. ولم يُعثر عليه منذ ذلك الحين.
الصمت والإنكار ومحاولات احتواء الأضرار الدبلوماسية
أثارت الخسارة قلقًا بالغًا داخل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لكن الحكومة الأمريكية التزمت الصمت علنًا. شنت الهند عدة بعثات بحث بين عامي 1966 و1968، مستخدمةً أجهزة كشف الإشعاع، وأجهزة استشعار الأشعة تحت الحمراء، وأجهزة مسح المعادن. ولم تعثر على أي أثر.
عندما انكشفت القصة أخيرًا عام 1978، بعد أن كشف صحفي العملية، أثارت ضجة سياسية في الهند. اتهم المتظاهرون وكالة الاستخبارات المركزية بتسميم منابع نهر الجانج، النهر المقدس الذي يغذي مئات الملايين من الناس.
في الخفاء، تعاون الرئيس جيمي كارتر ورئيس الوزراء الهندي آنذاك مورارجي ديساي سرًا لاحتواء التداعيات. تُظهر الوثائق التي رُفعت عنها السرية أن كلا الزعيمين عملا على منع تصعيد القضية، واكتفيا بالإشارة إليها باسم "حادثة الهيمالايا".. أما علنًا، فقد تمسكت واشنطن بموقفها: لن تُعلق على مسائل الاستخبارات.
مخاوف بيئية مستمرة
يقول العلماء إن المولد لا يمكن أن ينفجر كسلاح نووي، وإن الكم الهائل من المياه التي تغذي نهر الغانج من شأنه أن يخفف أي تلوث محتمل. وقد أظهرت الاختبارات الهندية التي أُجريت في سبعينيات القرن الماضي عدم وجود إشعاع في الجداول القريبة.
ومع ذلك، يُعد البلوتونيوم شديد السمية عند استنشاقه أو ابتلاعه. ويحذر الخبراء من أنه مع ذوبان الأنهار الجليدية، قد يطفو الجهاز على السطح في نهاية المطاف. وإذا تضرر، فقد يُشكل خطرًا صحيًا على أي شخص يصادفه. ويخشى آخرون سيناريو أسوأ: وهو إمكانية استعادة البلوتونيوم واستخدامه في قنبلة قذرة.
وقد ازداد القلق المحلي. فبعد انهيار جليدي كارثي بالقرب من ناندا ديفي عام 2021، والذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص، ألقى بعض القرويين باللوم على المولد المفقود، على الرغم من أن العلماء عزوا الكارثة إلى عدم استقرار ناجم عن تغير المناخ.
ندم بين من حملوه
حافظ العديد من المتسلقين الذين شاركوا في العملية على قسم السرية لعقود. وعند إجراء مقابلات معهم في أواخر حياتهم، أعرب العديد منهم عن ندم عميق.
قال جيم مكارثي، آخر متسلق جبال أمريكي على قيد الحياة، إنه حذر من أن ترك المولد الكهربائي كان خطأً فادحًا. أُصيب لاحقًا بالسرطان، ويعتقد أنه مرتبط بالتعرض للإشعاع أثناء التدريب.
وقال الكابتن كوهلي، الذي توفي عام ٢٠٢٤، إنه ما كان ليوافق على المهمة لو أدرك المخاطر كاملةً. وقال في إحدى مقابلاته الأخيرة: "كانت الخطة حمقاء، ووقعنا في شركها".
إرثٌ لم يُحَلّ من الحرب الباردة
لا يزال السياسيون الهنود والمسؤولون المحليون يطالبون اليوم بالعثور على الجهاز وإزالته. وقد أعادت الدعوات لإعادة فتح جبل ناندا ديفي أمام المتسلقين تسليط الضوء على هذا اللغز. ومع ذلك، تُصرّ هيئة الطاقة الذرية الهندية على عدم امتلاكها أي معلومات عن المولد المفقود، بينما تلتزم الولايات المتحدة الصمت.
في ظلّ توسّع البنية التحتية وانحسار الأنهار الجليدية، يبقى جهاز SNAP-19C المفقود رمزًا لعصرٍ طغى فيه التكتم على الحذر، وحينما بقيت تبعات قرارٍ واحدٍ من قرارات الحرب الباردة عالقةً دون حلّ في أعلى قمة العالم.









0 تعليق