بدأت هذا المقال بمحادثة مع "جوجل جي بي تي". سألته: ما عمر برتقال يافا؟ أجاب: منتصف القرن التاسع عشر. دونت ملاحظة له: هذه المعلومة مغلوطة لأن عمره يعود للقرن العاشر. اعتذر وقال إنه كان يقصد "تم تطوير صنف برتقال يافا (المعروف أيضًا ببرتقال الشموط) على يد مزارعين عرب فلسطينيين في منتصف القرن التاسع عشر في فلسطين تحت الحكم العثماني".
برتقال يافا حقيقة تاريخية وزراعية فلسطينية أصيلة وموثقة على نطاق واسع. لكن هناك محاولات لاحقة بعد النكبة، لسرقة الهوية والترويج له كرمز للكيان الاسرائيلي متجاهلة أصوله الفلسطينية العميقة. وهذا التزوير أصبح سائدا في محركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعي.
"خذوا ما شئتمُ من زرقة البحر ورمل الشطآن واتركوا لي برتقالةً واحدةً على شرفة البيت، كي أعرفَ طريقي إليكمْ".. آه، يا "درويش" دمروا وأبادوا كل شيء ولم يتركوا برتقالة واحدة ولا شرفة بيت!
لو أتيحت لأي شخص الآن فرصة التجول في أسواق الخضر والفاكهة بالدول الأوروبية وكندا فسيلاحظ بالتأكيد البرتقال اليافاوي؛ كل برتقالة كالملكة المتوجة على عرش الفواكه لامعة في لونها المميز تنادي دون كلمات. لكن دولة الاحتلال الاسرائيلي وضعت عليها عبارة "Jaffa"، لتمرر من خلالها تاريخًا طويلًا لـ"برتقال يافا" وتحوله إلى علامة تجارية تضيفه إلى سرديتها المزيفة، لطمس تاريخه الفلسطيني الضارب في الجذور.
لقد حاول الاحتلال أن يروّج لقطاع الزراعة عالميًا، ناسبًا برتقال يافا إليه، ومنتزعًا الاسم من سياقه التاريخي الطويل. لكن، وكما ينقل غسان كنفاني -في كتابه "أرض البرتقال الحزين"-على لسان أحد الفلاحين الفلسطينيين، فإن "البرتقال يذبل إذا ما تغيّرت اليد التي تتعهده بالماء".
وصل برتقال يافا إلى الأسواق العالمية منذ أكثر من ثلاثة قرون وكان علامة جودة في الأسواق الغربية، ومن أكثر المنتجات الزراعية التي افتكت حصة مهمة من واردات الحمضيات العالمية. وتستغل دولة الاحتلال الشهرة التاريخية لبرتقال يافا ليصبح سفيرًا لجودة الإنتاج الزراعي الإسرائيلي ولتروِّجُ من خلال كل حبة برتقال تصدّرها إلى العالم ادعاءات كاذبة بأنها صاحبة هذا التاريخ وأن اليهود هم من زرعوه منتزعة هذا الاسم من سياقه التاريخي، ومستمرة في نهج سرقة الثقافة وأريج المزارع أو البيارات كما يطلق عليها الفلسطينيون، البرتقال الذي قال لنا فلاحٌ كان يزرعه ثم خرج إنه يذبل إذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء والرعاية.
اشتهرت مدينة يافا الساحلية ببساتين البرتقال (البيّارات) التي كانت تحيط بها من ثلاث جهات، وأصبحت خلال الانتداب البريطاني وما قبله مركزًا رئيسيًا لتصدير أجود أنواع البرتقال إلى العالم، خاصة أوروبا.
تميز هذا النوع بقشرته السميكة التي تساعد على حفظه لفترات طويلة وتسهيل تصديره، وعصيره الغزير وطعمه الحلو المميز، مما أكسبه شهرة عالمية وعلامة تجارية باسم "يافا". أصبح برتقال يافا رمزًا اقتصاديًا وثقافيًا قويًا يمثل الأرض والهوية الفلسطينية، وارتبط في الذاكرة الجماعية بالوطن المفقود والحنين إلى يافا، عروس المتوسط الصامدة. سأردد ما قاله محمود درويش يوما عن برتقال يافا بأن له طعم الجنة!
إن برتقال يافا رمز للخير والجمال الفلسطيني الذي تم اقتلاعه، ظلت الأجيال تتذوّقه عبر العقود والقرون، وحتى وإن لم يستطيعوا أن يتذوقوه الآن فطعمه يصل عبر حكايات الآخرين، لأنه رمز للوطن والذاكرة الجمعية.
بعد النكبة عام 1948، استولى الاحتلال على البساتين وحاول محو الخبرة والعمالة الأصلية، وأصبح يسوق "برتقال يافا" كمنتج إسرائيلي، وهو ما يُعتبر "سرقة" للهوية والأصل. كما وضعته على لوحات الدعاية السياحية لها حيث صورة الفتاة الجميلة الواقفة مع سلال جمع البرتقال، فتمعن في الكذب بشأن جامعي البرتقال -وهم عربٌ-يعملون باليومية في ظروف قاسية داخل مزارع سرقها المستوطنون من أصحابها الأصليين.
ومن فرط تزييف الحقائق والدعاية الكاذبة تتراجع السردية التاريخية عن أصول برتقال يافا، ولم يعد الغرب يذكر أنه مع زيادة أعداد المهاجرين اليهود، طُرد الفلسطينيون من أرضهم وسقطت مدينة يافا في أيدي القوات الاسرائيلية في حرب 1948. واستولت التعاونيات اليهودية على مزارع البرتقال وأصبحت تُدار من قبلها، لتصنع الدعاية من برتقال يافا أيقونة للكيان الإسرائيلي الاستيطاني.
كانت هناك محاولات مستميتة في قطاع غزة للحفاظ على طرق زراعة برتقال يافا ولكن اقتلع الجيش الإسرائيلي في مطلع الألفية الثانية آخر أشجار البرتقال في المنطقة، تحت دعاوي إن المقاتلين الفلسطينيين يتخذونها كغطاء، محاولا مسح الذاكرة باقتلاعه لأشجار البرتقال، على شاكلة كل محاولات تزييف التاريخ المتكررة التي عمد إليها الاحتلال الإسرائيلي لخدمة مصالحه الاستيطانية.
حاولت ومازالت هذه السردية المزيفة ترويج أكذوبة كبرى وهي أن فلسطين دولة يهودية منذ أكثر من 3000 سنة وحتى التاريخ الحديث، بما في ذلك فترات نكبة عام 48 وحرب يونيو 67 وحرب أكتوبر 73. وتُدرَّس تلك الأكاذيب للأطفال اليهود في المدارس وتشكل هويتهم بالكذب والادعاءات، باعتبارها التاريخ المعترف به من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي.
لكن "وهل شجر في قبضة العدوان يثمر"-كما يقول نزار قباني-ستظل بلادي شجرة الزيتون والبرتقالة عاصمة الوديان وسنرجع يوما إلى حينا وتبقى فلسطين الوطن والقدس الشريف عاصمتها الأبدية.









0 تعليق