في خضمّ التحولات الدولية المتسارعة، تأتي قمة (أوراسيا) لتؤكد أن العالم لم يعد كما كان، فالاجتماع الذي يجمع بين الشرق الصاعد والقوى الأوراسية المتحالفة لا يُعد حدثاً عادياً، بل محطة مفصلية في مسار إعادة تشكيل النظام الدولي
وتشير دراسات بحثية صادرة عن جامعة (جنيف) إلى أن النظام العالمي يتجه نحو (تعددية الأقطاب)، بعد عقودٍ من (التفرد الأمريكي). وهو ما يفسّر تزايد الحراك بين موسكو وبكين وأنقرة وطهران لبلورة بدائل جديدة في الاقتصاد والسياسة والأمن.
وفي هذا الإطار، نستعرض تقرير خاص (لتحيا مصر) يناقش أربعة محاور رئيسية ..
أوراسيا من فكرة جغرافية إلى مشروع سياسي عالمي.
التحالف الصيني الروسي.. من الاقتصاد إلى توازن القوى.
نهاية التفرد الأمريكي.. حلم أم واقع جديد؟
الشرق الأوسط بين محورين.. كيف توازن (مصر) خطواتها القادمة؟
أوراسيا.. من فكرة جغرافية إلى مشروع سياسي عالمي..
نجد أن مصطلح "أوراسيا" لم يعد مجرد توصيف جغرافي، بل أصبح إطاراً سياسياً ،واستراتيجياً يجمع بين قوى تسعى إلى كسر الاحتكار الغربي للنظام الدولي.
وفي هذا السياق، أشارت دراسة صادرة عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) إلى أن التعاون بين الصين وروسيا تجاوز المصالح الآنية نحو مشروع استراتيجي طويل المدى، يهدف إلى بناء "توازن قوى عالمي جديد" يتحدى التفرد الأمريكي.
كما أوضحت الدراسة أن "الأوراسية السياسية" تكتسب زخماً كبيراً بفضل توسع مبادرة "الحزام والطريق"، التي باتت تربط أكثر من 150 دولة في شبكات استثمارية وتجارية ضخمة، تعزز النفوذ الشرقي في قلب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.
وفي سياق متصل، يرى خبراء أن القوة الأوراسية تستند إلى فلسفة تقوم على احترام السيادة ورفض الإملاءات السياسية، مما يمنحها جاذبية لدى العديد من الدول النامية الباحثة عن بدائل للنفوذ الغربي التقليدي.
التحالف الصيني-الروسي.. من الاقتصاد إلى توازن القوى
جدير بالذكر يتعزز التحالف بين موسكو وبكين يوماً بعد يوم، إذ تشير تقارير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) إلى أن التنسيق بين البلدين لم يعد يقتصر على الاقتصاد أو الطاقة، بل امتد إلى مجالات الإعلام والتكنولوجيا والمعلومات، في خطوة تُعد الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات بين القوتين.
كما ذكرت دراسة حديثة لـ منتدى شرق آسيا (East Asia Forum) أن الشراكة بين الجانبين وإن كانت تحمل شعار "بلا حدود"، إلا أنها تُدار بحذر شديد للحفاظ على توازن المصالح في مناطق النفوذ الحساسة، مثل آسيا الوسطى والقطب الشمالي.
ومن ناحية أخرى، أوضح مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (CFR) أن هذا التحالف يمثل أكبر تحدٍ استراتيجي للغرب منذ نهاية الحرب الباردة، مؤكداً أن التنسيق بين موسكو وبكين يهدف إلى خلق نظام بديل يُعيد تعريف مفاهيم الهيمنة والتعاون الدولي.
ويُذكر أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين تجاوز 240 مليار دولار عام 2024، بزيادة تفوق 25% عن العام السابق، ما يعكس انتقال العلاقات الثنائية من التنسيق الدبلوماسي إلى التحالف الاقتصادي الفعّال.
نهاية التفرد الأمريكي.. حلم أم واقع جديد؟
وعلي صعيد متصل ،تتزايد التساؤلات حول ما إذا كان العالم يشهد بالفعل نهاية مرحلة التفرد الأمريكي.
فبحسب تقرير صادر عن مجلة The Science Survey، فإن "الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فرض هيمنتها المطلقة كما في السابق"، مشيراً إلى أن بروز قوى اقتصادية جديدة كالصين والهند والبرازيل وعودة روسيا كقوة عسكرية مؤثرة قد غيّر من قواعد اللعبة العالمية.
كما أكدت دراسة أخرى صادرة عن معهد الجيوإكونوميا (Institute of Geoeconomics) أن واشنطن "غير مستعدة تماماً لعالم متعدد الأقطاب"، وأنها تواجه تحديات غير مسبوقة في الحفاظ على نفوذها وسط صعود تحالفات اقتصادية جديدة مثل "بريكس" و"منظمة شنغهاي".
ويخلص العديد من الخبراء إلى أن "التفرد الأمريكي" ربما لم ينتهِ بالكامل، لكنه بات قيد المراجعة التاريخية، حيث لم تعد الولايات المتحدة اللاعب الوحيد في رسم السياسات العالمية، بل طرفاً رئيسياً ضمن شبكة توازنات أوسع.
الشرق الأوسط بين محورين.. كيف توازن (مصر )خطواتها القادمة؟
وعلى صعيد آخر ، يجد الشرق الأوسط نفسه أمام تحول استراتيجي دقيق، مع تزايد النفوذ الأوراسي في المنطقة من جهة، وتمسك الغرب بشراكاته التقليدية من جهة أخرى.
وتُعد (مصر) من أبرز الدول التي تسعى لتطبيق سياسة خارجية متوازنة، إذ تعمل على تنويع شراكاتها الدولية مع الحفاظ على موقعها كشريك استراتيجي للغرب.
ويرى مراقبون أن القاهرة تسعى إلى الاستفادة من الزخم الشرقي في مجالات البنية التحتية والطاقة المتجددة والتكنولوجيا، مع تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا في إطار رؤية تنموية مستقلة.
كما يشير خبراء السياسة الدولية إلى أن (نجاح )مصر في (الحفاظ) على هذا التوازن سيمنحها (مكانة )(محورية) بين الشرق والغرب، ويجعلها نموذجاً للدبلوماسية الذكية في عالمٍ يتغير بسرعة.
آراء الخبراء الدوليين .. العالم أمام خريطة جديدة للقوة
وبدورهم ،تباينت رؤى الخبراء الدوليين حول طبيعة التحولات الجارية في قمة أوراسيا وتأثيرها على النظام الدولي، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن العالم يقف عند عتبة مرحلة( تاريخية جديدة).
ورأي، البروفيسور وانغ يي ، أستاذ العلاقات الدولية، بجامعة تسينغهوا الصينية أن «التحالفات الأوراسية لم تعد خياراً بديلاً، بل ضرورة استراتيجية فرضتها التطورات الاقتصادية العالمية».
ويضيف: «الصين لا تسعى إلى (صدام) مع الغرب، بل إلى (إعادة )توزيعٍ أكثر عدلاً لمراكز القوة. أوراسيا تمثل بالنسبة لبكين منصة توازن وليست محور تحدٍ».
ويشير إلى أن مبادرة "الحزام والطريق" أصبحت بالفعل «العمود الفقري لنظام اقتصادي عالمي جديد يقوم على الترابط لا الإقصاء».
ومن جانبها أكدت الدكتورة هيلينا شولتز الباحثة في مركز الدراسات الأوروبية ببرلين أن «القارة الأوروبية تشعر بقلق حقيقي من التغيرات الجارية، لأن صعود أوراسيا يعني تحوّلاً في موازين التجارة والطاقة .
وتضيف «أوروبا اليوم بين خيارين: إما الاندماج في النظام الجديد كمحور متعاون، أو التمسك بتحالفات قديمة تتآكل ببطء .
وترى أن الحوار مع موسكو وبكين حول الأمن الإقليمي «بات أمراً لا يمكن( تجاهله) خصوصاً في ظل التراجع الأمريكي النسبي في الشرق الأوسط وآسيا.
وأكد السفير دكتور أحمد فخري خبير العلاقات الدولية وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية أن مصر «تقف أمام فرصة (تاريخية) لتوظيف مكانتها في قلب أوراسيا الجيوسياسية».
وقال ، ان القاهرة قادرة على أن تكون محور اتصال بين الشرق والغرب، خاصة مع توسع استثماراتها في( الطاقة) (الخضراء)( وموقعها )في مبادرة الحزام والطريق».
ويشدد على أن نجاح مصر في الحفاظ على استقلال قرارها الخارجي سيجعلها من أكثر الدول استفادة من نظامٍ عالمي متعدد الأقطاب.
تجمع هذه الآراء على أن العالم يعيش مرحلة إعادة تموضع كبرى، حيث تتراجع الحدود الفاصلة بين الشرق والغرب، وتبرز تحالفات غير تقليدية ترسم ملامح القرن الحادي والعشرين.
وفي ظل هذه المتغيرات، تبدو قمة أوراسيا ليست مجرد اجتماع دولي، بل علامة فارقة في طريق التحول نحو نظام عالمي جديد… نظام تُكتب فصوله الآن بين بكين وموسكو والقاهرة.
ختاماً، يمكن القول إن ما يجري اليوم يتجاوز الصراع التقليدي بين القوى العظمى، ليصبح صراعاً على تعريف النظام العالمي نفسه.
فمن فكرة جغرافية إلى مشروع سياسي شامل، ومن تعاون اقتصادي إلى توازن قوى عالمي، ومن الهيمنة الأمريكية إلى التعددية القطبية، نحن أمام فصلٍ جديد في التاريخ الدولي.
وفي هذا المشهد المتحوّل، يبدو أن الشرق يكتب روايته الجديدة بثقة، بينما يقف الغرب أمام اختبار قدرته على التكيّف مع واقعٍ لم يعد يحتمل التفرد.
ويبقى السؤال الأهم:
هل تكون أوراسيا هي من تُعيد تعريف العالم… أم أن العالم هو من سيعيد تعريفها؟












0 تعليق