"جُحر الفئران"... مغامرة سينمائية طازجة وكاشفة

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من المؤكد أن المغامرة التي قام بها المخرج "محمد السمان" في فيلم "جحر الفئران" تستحق التحية، فقد اختار اللعب في المناطق الصعبة، والسباحة خارج تيار التقليدي والسائد وسوق "شباك" السينما المتعارف عليه خلال السنوات الأخيرة، وقرّر تقديم عملٍ سينمائي ينتصر للتفاصيل، ويحتفي بالإنسان بكل همومه وقضاياه، بتناولٍ سهلٍ ورؤيةٍ عميقة، مستلهمًا في ذلك سيرة روّاد الواقعية السحرية مثل محمد خان، وعاطف الطيب، وداود عبد السيد، الذين غاصوا في تفاصيل الواقع، وحملت كاميراتهم رؤى شديدة السحر والدهشة والانتماء للواقع.

والمغامرة تأتى من عدة سمات في العمل أولا انه أعتمد على وجوه سينمائية – ليست نجوم شباك – ثم أنه عمل في معظم مساحته الزمنية يدور في "لوكيشن واحد " وهذا أمر شديد الصعوبة ويتطلب نص درامي مُحكم للغاية وجذاب جدا حتى تضمن متابعة وتركيز المتلقي.

هكذا غامر "السمان "في "جحر الفئران"، وأعتقد أنه كان موفقًا بدرجة كبيرة؛ فنحن أمام فيلمٍ روائيٍّ طويل يعتمد على البطلة "خلود"  التي جسّدتها ببراعة الممثلة الشابة "رنا خطاب"، تلك الفتاة التي تواجه أزمة مالية خانقة. فبعد أن أسعدها خبر حصولها على وحدة سكنية في مدينة بدر، لتنقذها من عشوائية مسكنها الحالي، تواجه أزمة خانقة بضرورة توفير مبلغ سبعة آلاف جنيه كمقدم للحصول على الوحدة السكنية التي أصبحت حلم حياتها، وتبدأ رحلةً شاقةً لتوفير هذا المبلغ.

تدفعها تلك الظروف الضاغطة إلى الدخول في عالم جديد تمامًا من المغامرة، وأظن أن هذا العالم أحد أبطال العمل بامتياز، فقد نجح مؤلف ومخرج الفيلم في التقاط فكرةٍ طازجة لم تُطرَق بهذه السعة وتلك التفاصيل من قبل، وهو عالم "تبرعات الجمعيات الخيرية" ومنظومة النصب واستغلال البشر التي يقودها محترفون لتحقيق ثروات طائلة.

يجمع مدير الجمعية عددًا من الفتيات في مكان متواضع جدًا يشبه بدرومًا، ويُعطي لكلٍّ منهن قائمةً بأرقام هواتف عشوائية، وتتولى كلٌّ منهن الاتصال لإقناع الضحايا بالتبرع لإنقاذ مريضٍ وهمي.

تبدأ "خلود" في عملها الجديد، وذهنها منشغل بأزمتها في ضرورة توفير المبلغ المطلوب.

تطلب قرضًا من مدير المؤسسة، لكنه يشترط لمنحه تحقيق عائدٍ لا يقل عن عشرين ألف جنيه خلال اليوم، فتضطر للموافقة وتبدأ رحلةً لتوفير العائد المطلوب. تتعرض خلال اتصالاتها لمحاولات اصطيادٍ مستمرة وبأشكال مختلفة، وكأنها فأرٌ يسعى الجميع لاصطياده. وهي بالفعل فريسةٌ سهلة تتماهى مع كل محاولة، حتى إنّ أحد المستهدفين للتبرع يطلب منها إرسال صورةٍ بدون غطاء الرأس حتى يتمكن من توفير فرصة عملٍ تحقق لها أضعاف ما تحققه من عملها الحالي، فتستجيب بعد ترددٍ تحت ضغط الفقر، وتخلع غطاء الرأس في مشهدٍ صُنع بإتقانٍ وتأثيرٍ واضح.

وسط أجواءٍ من الإثارة تتعرض "خلود" لمضايقاتٍ عديدة، وتخوض تجارب متنوعة مع أنماطٍ مختلفة تكشف طبيعة المجتمع ورؤيته لمفهوم ومعنى التبرع عبر تلك المؤسسات، كما تكشف وجود شبكاتٍ تدير تلك المنظومة غير المرئية التي تحرك هؤلاء "الفئران" أو الفتيات. وقد نجح صُنّاع العمل في تقديمهن بشكلٍ حقيقي لدرجة أنك لا تشعر في لحظة أنهن ممثلات، سواء من حيث اختيار الوجوه المصرية الأصيلة أو من حيث الملابس أو الأداء التمثيلي.

تقضي "خلود" ليلةً كاملة تواصل اتصالاتها بالمتبرعين حتى تصطدم بأحد شركاء مدير المؤسسة، وتتورط في تسريب بعض المستندات له أملًا في الوفاء بوعده لها بمنحها القرض المطلوب (سبعة آلاف جنيه)، لكنها تكتشف أنها تورطت وخسرت وظيفتها. ومع نهار اليوم الجديد، يصل الموظفون وتستعد خلود للرحيل عن مقر المؤسسة، فتتلقى رسالةً بالمبلغ المطلوب (سبعة آلاف جنيه).

حين يتحول هذا المبلغ إلى طوق النجاة لأسرةٍ مصرية، وحين يكون بيع الوهم والاتجار بالأكاذيب يدر مئات الآلاف كل يوم، فإن الفئران التي يتم اصطيادها لا يجب أن تفرّ من قفص الاستغلال. وهذا ما جاء على لسان عامل البوفيه البسيط عندما سألته خلود عن مصير الفأرٍ الذى كان حبيسًا في المصيدة، ليجيب بأنه الوحيد الذي تمكن من الفرار. ثم تخرج خلود إلى الشارع كأنها تخلصت من حصار المصيدة.

والفيلم الذي ينتمي إلى "سينما المؤلف" من تأليفٍ وإخراجٍ وإنتاج المبدع الشاب محمد السمان، وبطولة **رنا خطاب، محمد يوركا، كمال الإسنوي، وحنان حلمي، وتصوير محمود النمر، وموسيقى صفا بركات، ومونتاج وائل أراباب

وكان قد شارك الفيلم في عددٍ من المهرجانات الدولية، من بينها مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة (العرض العالمي الأول)، ومهرجان عمّان السينمائي الدولي (إشارة خاصة)، ومهرجان طرابلس للأفلام، ومهرجان BRICS بروسيا، ومهرجان Pune الدولي بالهند، كما حصد تنويهًا خاصًا لأفضل ممثلة لأول مرة في مهرجان أجيال السينمائي. شكرًا محمد السمان الذي قدّم عملًا يستحق التحية، وشكرًا رنا خطاب (خلود) التي تستحق مكانةً فنية توازي موهبتها الكبيرة، وواثق أن هذا سوف يتحقق.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق