في مشهد تاريخي طال انتظاره، شهد العالم السبت الماضي، الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير، أضخم صرح أثري وثقافي في القرن الحادي والعشرين، الذي فتح أبوابه ليعيد إحياء ملامح عبقرية المصري القديم، لا في فنونه ومعابده فقط وآثاره فقط، بل في علمه وفكره وإنسانيته، وبين أجنحة المتحف المهيبة، يسطع جناحٌ استثنائي يروي حكاية مصر التي لم تكتفِ ببناء الأهرامات، بل بنت أسس الطب والعلاج قبل آلاف السنين.
في قاعات العرض الجديدة، تتجلى أدوات الجراحة والتحنيط، وقطع من "برديات الطب الفرعوني" التي أرست مفاهيم الطب الحديث، لتُذكّر العالم بأن المصري القديم كان أول من فهم الجسد الإنساني بعين العالِم، وعالجه بعقل الطبيب وقلب الإنسان.
افتتاح المتحف لم يكن احتفالًا بالماضي فقط، بل تأكيدًا على أن مصر كانت مهد الطب وستظل منارته، حيث تتحول كل قطعة أثرية إلى شاهد حي على رحلة العلم من المعابد القديمة إلى مختبرات اليوم بأعظم تقنيات.
افتتاح المتحف المصري الكبير.. رحلة العلم من جدران المعابد إلى قاعات العرض الحديثة
يعد افتتاح المتحف إعادة إحياء لتراثٍ علميٍّ أصيل، فمصر كانت مهد الطب منذ فجر الحضارة الإنسانية، بين جدران المعابد ومقابر الأطباء في الدولة القديمة، وُلدت أولى البذور التي أنبتت مهنة الطب القائم على التجربة والملاحظة، لا على السحر والخرافة.
ويؤكد المتحف المصري الكبير أن الطب المصري القديم لم يكن مجرد فصل من الماضي، بل جسرٌ يمتد إلى الحاضر، حيث يواصل الأطباء المصريون اليوم رسالة أسلافهم بروحٍ علمية وإنسانية.
إمحوتب وبسشيت.. روّاد الطب والإنسانية في فجر التاريخ
يُعد إمحوتب أول طبيب في تاريخ البشرية، عاش قبل أكثر من 4600 عام في عهد الملك زوسر، فجمع بين الطب والهندسة والفلسفة، وكرّمه المصريون بعد موته باعتباره إله الطب والشفاء.
ولم يكن الطب في مصر القديمة حكرًا على الرجال، فمنذ الأسرة الرابعة (نحو عام 2400 ق.م)، لمع اسم الطبيبة بسشيت (Peseshet)، التي حملت لقب "سيدة الطبيبات" و"المشرفة على الطبيبات"، لتكون أول امرأة في تاريخ البشرية تُعرف رسميًا بلقب طبيبة.
برديات إدوين سميث وإيبرس.. إرث علمي سبق الطب الحديث بآلاف السنين
تُعد بردية إدوين سميث أقدم وثيقة جراحية في العالم، تصف 48 حالة إصابة بتفاصيل تشريحية مذهلة، وتشبه منهجيتها تقييمات غرف الطوارئ الحديثة، إذ قسّم الطبيب المصري الحالات إلى، "قابلة للعلاج"، و"قيد الملاحظة"، و"ميؤوس منها".
أما بردية إيبرس، فتضم أكثر من 700 وصفة علاجية لأمراض متعددة، استخدم فيها العسل كمضاد للبكتيريا، والثوم والبصل لدعم المناعة، وزيت الخروع كملين طبيعي، في دليل على سبق المصريين في الطب الوقائي والعلاجي.
أدوات الجراحة والتحنيط في المتحف.. عندما يتحول الأثر إلى دليل علمي حي
يعرض المتحف المصري الكبير مجموعة نادرة من المشارط البرونزية، الأواني الحجرية، وأدوات التحنيط التي استخدمها الأطباء والكهنة في علاج المرضى وحفظ الجسد.
وتُظهر هذه الأدوات مدى فهم المصري القديم للتشريح ووظائف الأعضاء، إذ لم يكن التحنيط مجرد طقس ديني، بل علم متكامل يجمع بين المعرفة الطبية والكيميائية.
وهذا يكشف أن الطب في مصر القديمة لم يكن علمًا نظريًا فقط، بل ممارسة دقيقة متقدمة تركت لنا أدلة مادية مدهشة أثبتها العلم الحديث، فقد كشفت الدراسات على المومياوات الملكية عن عمليات طبية وجراحية سبقت زمنها بآلاف السنين.
وُجد في إحدى المومياوات مسمار معدني في عظمة الفخذ لتثبيت كسر، وهو ما يعادل في مفهوم اليوم عملية تركيب مسمار نخاعي.
كما وُجدت في مومياوات أخرى أسنان صناعية مثبتة وأدلة على جراحات في الفك والعظام تمت بدقة مدهشة.
أثبتت الفحوص الحديثة وجود عمليات تحنيط معقدة شملت تفريغ الأعضاء الداخلية بطرق تحافظ على الشكل التشريحي بدقة علمية كبيرة.
بيت الحياة.. أول مستشفى وجامعة طبية في التاريخ
عرف المصريون القدماء التخصص الطبي؛ فكان هناك طبيب للأسنان وآخر للعيون وثالث للبطن، وتدل هذه النصوص على وجود مؤسسة تعليمية تُعرف باسم "بيت الحياة"، كانت بمثابة أول جامعة ومستشفى تعليمي، يتدرّب فيها الأطباء ويُدرّسون علوم الجراحة والصيدلة والتشريح، حيث كان يتلقى فيه الأطباء تدريبهم المنهجي والموثق.












0 تعليق