الفاشر.. مدينة تختبر ضمير الإنسانية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

 

في الفاشر، لا يدور صراعٌ سياسي فحسب، بل مأساة إنسانية مكتملة الأركان. المدينة المحاصَرة منذ شهور تحوّلت إلى مسرحٍ لجرائم يعجز العقل عن تصورها، ويعجز الضمير عن تبريرها. تُستباح أجساد النساء، ويختبئ الأطفال بين الركام، ويُساق العجزة إلى الموت في صمتٍ مخزٍ من العالم. ما يجري هناك ليس حربًا، بل انهيارٌ كامل للإنسانية.

 

ما حدث في الفاشر لا تصفه الكلمات، ولا تحتمله القلوب. امتزجت أصوات الاستغاثة برائحة الدمار، ودموع النساء بتراب الأرض التي لفظت أبناءها. مشاهد التعذيب والقتل والعنف الجسدي ضد المدنيين، ولا سيّما النساء، تجاوزت حدود الوصف، واستحضرت إلى الذاكرة أبشع صور القهر في تاريخ البشرية.

 

 

تقع الفاشر في إقليم دارفور غرب السودان، وهي عاصمة ولاية شمال دارفور. لطالما كانت مركزًا تجاريًا وثقافيًا بارزًا، وعاصمة سلطنة دارفور قبل ضمّها إلى السودان في بدايات القرن العشرين. غير أن موقعها الجغرافي الذي منحها الأهمية الاستراتيجية جعلها أيضًا في قلب الصراع الدامي الذي يعصف بالسودان منذ عقود.

 

منذ اندلاع النزاع في دارفور عام 2003، أصبحت الفاشر مركزًا للحركات المسلحة ومقرًا لبعثة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي (يوناميد). وفي الفترة ما بين 2023 و2025 تصاعدت المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حتى باتت الفاشر آخر المدن الكبرى في دارفور التي ظلت لفترة طويلة تحت سيطرة الجيش، قبل أن تتحول إلى بؤرة مأساة إنسانية غير مسبوقة.

 

شهدت المدينة حصارًا خانقًا وهجمات عنيفة أوقعت مئات القتلى والجرحى من المدنيين، وترافقت مع تقارير مروّعة عن انتهاكات واسعة شملت إعدامات ميدانية، واعتداءات جنسية، ونهبًا، وتدميرًا للمستشفيات ومخازن الغذاء. هذه التطورات دفعت مجلس الأمن الدولي إلى عقد جلسة طارئة، في محاولة لاحتواء ما وصفه مسؤولون أمميون بـ«الخطر الإنساني الأكبر في السودان منذ عقود».

 

 

في بيانه الصادر بالإجماع، ندد مجلس الأمن الدولي بهجوم قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر وبـ«الفظائع» التي ارتُكبت ضد المدنيين، مؤكدًا التزامه بـ«سيادة السودان ووحدة أراضيه»، ورافضًا إنشاء أي «سلطة حاكمة موازية» في المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيا.

 

وأشار البيان إلى «القلق البالغ» من تصاعد العنف في المدينة وحولها، داعيًا إلى رفع الحصار عن الفاشر ووقف القتال فورًا، تنفيذًا للقرار 2736. كما شدّد على ضرورة محاسبة مرتكبي الانتهاكات، وحثّ جميع الأطراف على احترام القانون الدولي الإنساني، وتسهيل وصول المساعدات وتأمين ممرات آمنة للمدنيين.

 

غير أن البيان، رغم قوته الأخلاقية والإنسانية، افتقر إلى أي آلية تنفيذية أو إجراءات ردعية. لم يلوّح بعقوبات، ولم يدعُ إلى نشر قوات مراقبة أو حماية دولية، مكتفيًا بدعوات عامة لاستئناف المحادثات السياسية. وهذا يعكس حالة الشلل السياسي داخل المجلس بسبب تباين مواقف القوى الكبرى حيال الأزمة السودانية.

 

بالتوازي، أصدرت بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق بيانًا أكدت فيه أنها جمعت شهادات مروّعة من ناجين كشفت عن نمطٍ متعمد من الانتهاكات، شمل إعدامات جماعية على أساس عرقي، واعتداءات جنسية، وتدميرًا للبنية التحتية الحيوية، ونزوحًا قسريًا واسع النطاق.

 

 

يُعدّ بيان مجلس الأمن أقوى موقف دولي حتى الآن تجاه مأساة الفاشر، لكنه لا يرقى إلى مستوى التدخل أو الردع الحقيقي.

فالمجلس اكتفى بتسجيل موقف أخلاقي وإنساني دون الانتقال إلى الفعل السياسي أو العسكري، ما يترك المدنيين السودانيين تحت رحمة الأطراف المتحاربة. وبين لغة الدبلوماسية وضغط الواقع، تبقى الفاشر صرخة تختبر جدّية العالم في الدفاع عن القيم التي يرفعها.

 

تمثل معركة الفاشر منعطفًا حاسمًا في مسار الحرب السودانية. فسيطرة أي طرف على المدينة تعني الهيمنة على شمال دارفور بأكمله وفتح الطريق نحو الحدود مع ليبيا وتشاد. غير أن الأبعاد العسكرية ليست وحدها ما يجعل الفاشر مهمة؛ فالمعركة كشفت حجم الانقسام السياسي، والانهيار الإنساني، وعجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين.

 

من الناحية السياسية، يعكس هجوم الدعم السريع محاولة لترسيخ واقع ميداني جديد يفرض لاحقًا سلطة أمر واقع على طاولة المفاوضات. أما إنسانيًا، فالمأساة في الفاشر تُظهر الفشل التام للمجتمع الدولي في فرض حماية للمدنيين أو ضمان وصول الإغاثة، رغم التحذيرات الأممية المتكررة.

 

استمرار العنف في الفاشر لا يهدد السودان فحسب، بل ينذر بـانفجار إقليمي أوسع. فموجات النزوح الجديدة قد تتدفق نحو تشاد وليبيا، وتزداد معها أنشطة الميليشيات العابرة للحدود، مما يجعل دارفور مركزًا جديدًا لعدم الاستقرار في منطقة الساحل الإفريقي.

 


اليوم، أصبحت الفاشر رمزًا للأزمة الإنسانية في السودان  مدينة تنهار فيها البنية التحتية، وتُقتل فيها البراءة، وتُختبر فيها ضمائر العالم.

الصمت لم يعد حيادًا، بل تواطؤًا مع المأساة.

وما لم يتحرك المجتمع الدولي بجدّية، فقد تُضاف الفاشر إلى سجل المدن التي كتب التاريخ أسماءها بالدم والخذلان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق