في هذه اللحظةٍ الدقيقة من عمر الدولة المصرية، تقف البلاد على أعتاب مرحلة جديدة تتجاوز فيها إرث العشوائية الإدارية إلى تأسيس دولة القرار الرشيد، وفي هذه اللحظة، تبدو الحكومة القادمة - بعد انتخابات مجلس النواب القادمة - كأنها المرآة التي ستنعكس عليها ملامح الجمهورية الجديدة، لا بما تمتلك من برامج وخطط فحسب، بل بمن تختارهم لتَحمٌل مفاتيح القرار.
في هذا الوقت الحرج أيضا، تتعاظم مسئولية الجهات الرقابية والمختصة في الدولة في التدقيق العميق والدراسة الواعية للشخصيات المرشحة لتولي الحقائب الوزارية، فالمناصب لم تعد وجاهة أو مجاملة، بل هي أمانة وطنية وموقع إنتاج وتغيير.
إن اختيار الوزير اليوم يعني اختيار مصير قطاع كامل، وتحديد اتجاه دولة نحو المستقبل، ومن هنا تأتي أهمية أن تكون تلك الجهات مرآة ضمير الوطن، ودرع كفاءته، وعين قيادته على الحقيقة؛ لا تجامل ولا تتسرع، بل تزن الرجال بميزان الأداء والسيرة والقدرة على القيادة لا بسطح الشعارات أو شبكة العلاقات، فكل وزارة اليوم بحاجة إلى عقل مفكر، وإرادة مخلصة، وشخصية تنفيذية مؤمنة بفلسفة الدولة الجديدة، وبنفس روح العمل الجاد والمسئول التي يتبناها الرئيس عبد الفتاح السيسي ويقدمها بنفسه، فمسؤولية التدقيق في المرشحين ليست عملًا إجرائيًا، بل واجب وطني يحدد شكل الغد، ويصنع الثقة بين الدولة وشعبها، ويمهد لجمهورية لا مكان فيها إلا للكفاءة والنزاهة والعطاء الحقيقي.
لقد كانت أزمة الأداء في حكوماتٍ متعاقبة ليست في قلة الموارد أو نقص الكفاءات، بل في معايير الاختيار ذاتها، فكم من وزيرٍ امتلك نوايا صادقة، لكنه افتقر إلى الرؤية والقدرة على إدارة القرار، وكم من آخر حمل مؤهلًا رفيعًا، لكنه لم يفهم أن القيادة ليست تنفيذًا، بل صناعةُ فكرٍ واتجاه.
من هنا جاء اهتمامي بطرح هذا الملف في سلسلة من المقالات، أتناول فيها - من منظورٍ استراتيجي وعملي - معايير اختيار الوزراء في الجمهورية الجديدة: من هو الوزير الذي نحتاجه؟ وما الأدوات التي تُمكّنه من النجاح؟ وكيف نعيد تشكيل منظومة الإدارة الحكومية بحيث تصبح الوزارات عقولًا مفكرة لا أذرعًا تنفيذية فقط؟
وسأبدأ في هذا المقال الأول بطرح السؤال الجوهري: كيف نختار من يصنع القرار لا من ينتظر التعليمات؟
أولا: كيف يتحول الوزير في المفهوم الحديث من ممثل سياسي إلى قائد مفكر؟
إن الوزير في المفهوم التقليدي هو مجرد ممثلٍ للحكومة أمام الشعب، أو واجهة سياسية تدير الملفات بروح الموظف الرفيع، لكن في الدولة الحديثة، لم يعد هذا كافيًا.
فالوزير يجب أن يكون أشبه بـ رئيس تنفيذي لقطاعٍ وطنيٍ كامل، يحمل مسؤولية صياغة السياسات العامة، وتوجيه الموارد، وقيادة فرق العمل نحو هدفٍ محدد، وهو ليس مجرد منفذٍ لقرارات تأتيه من الأعلى، بل مُفكِّر استراتيجي يقرأ المستقبل ويصنع البدائل قبل وقوع الأزمات.
والدولة التي تنتظر قراراتها من الأعلى إلى الأسفل لا يمكن أن تتطور، بينما الدولة التي يمتلك وزراؤها روح المبادرة والقدرة على صياغة الرؤية هي وحدها التي تبني مؤسساتٍ حيّة لا إداراتٍ خاملة.
بعض الوزراء الحاليين - للأسف ـ- اكتفوا بأن يكونوا مجرد مستقبِلين للتعليمات من رئيس الحكومة، لا صانعي للسياسات، وكأن دور الوزير قد انحصر في تنفيذ ما يُملى عليه دون رؤية أو اجتهاد، والأخطر من ذلك أنهم ينقلون هذا النمط نفسه إلى من هم تحتهم، فيتحول الجهاز الإداري إلى سلسلة من المنفذين الصامتين، كلٌّ ينتظر إشارة ممن فوقه. وهكذا نجد الوزير يتدخل أحيانًا بإصدار فرمانات ومذكرات ارتجالية قد تُربك خطط الهيئات والشركات والقطاعات التابعة له، لا لشيء إلا لتأكيد سلطته الشكلية، أو محاولة لإيجاد حلول عشوائية للأزمات تعتمد على هوى الوزير فقط دون تخطيط أو دراسة، فكما يرى الوزير نفسه “مُستقبلًا” من رئيس الحكومة، يريد من تحته أن يكونوا “مستقبلين” منه أيضًا، دون نقاش أو مبادرة، وهذه الحلقات الميتة من الطاعة الإدارية تقتل الإبداع، وتخنق التطوير، وتُوأد معها كل فكرة ملهمة أو حلٍّ خارج الصندوق، لتتحول المؤسسات إلى أجساد بلا روح تنتظر من يُحرّكها.
ثانيا: من يُدير ومن يُدار:
المعضلة الكبرى في حكوماتٍ سابقة أن كثيرًا من الوزراء تعاملوا مع المنصب بوصفه "وظيفة مؤقتة" لا "رسالة وطنية"، ينتظر التعليمات، ويتجنب القرار، ويفضّل المنطقة الرمادية التي لا يُحاسب فيها أحد، وهنا تتجمد الدولة في طابور انتظارٍ طويلٍ للتوجيهات.
والوزير الحقيقي هو الذي يملك الجرأة على صناعة القرار، ويملك الشجاعة على تحمّل تبعاته، فلا دولة قوية بلا وزراء أقوياء في الفكر والموقف، وقد رأينا عبر التاريخ نماذج لوزراء تركوا بصمات لا تُنسى مثل الدكتور كمال الجنزوري الذي أعاد رسم خريطة التنمية في زمنٍ صعب، ومهاتير محمد الذي صنع نهضة ماليزيا عبر وزراء حالمين بالفعل لا بالكلام، ولم يكن هؤلاء ينتظرون أوامر عليا، بل كانوا يصنعون قراراتٍ عليا تُبنى عليها الدولة.
ثالثا: معايير الاختيار الجديدة:
الجمهورية الجديدة لا تحتاج إلى وزيرٍ يُجيد المظهر أو الشعارات، بل منهجًا علميًا للاختيار يقوم على الكفاءة والفكر والقدرة على القيادة، ولعل أبرز المعايير التي ينبغي أن تتبناها الدولة في هذا الإطار يمكن تلخيصها في خمسة محاور رئيسية:
1. الرؤية الاستراتيجية: أن يدرك الوزير موقع وزارته في خريطة الدولة الكبرى، ويعرف كيف يقيس الأثر لا الجهد.
2. الخبرة التنفيذية: أن يكون قد خاض تجارب حقيقية في الإدارة، واتخاذ القرار لا في التنظير وحده، وإنجاز النتائج التحويلية التي يتغير فيها وجه الأزمة إلى نجاح محقق ومعترف به،
3. القدرة على التواصل والإقناع: فالمجتمع شريك في النجاح، والإدارة الحديثة لا تقوم على الأوامر بل على بناء الثقة.
4. النزاهة والشفافية: لأن الفساد الإداري يبدأ من لحظة انعدام الشفافية، لا من لحظة ارتكاب الجريمة.
5. المرونة الفكرية: فالعصر لا يرحم من يتجمد على ما تعلّمه، ولا يتسع لمن يرفض التغيير.
ولتحقيق معايير الاختيار الجديدة للوزراء في الجمهورية الجديدة، لا بد أن يكون الوزير القادم صاحب رؤية واضحة ومنهج إداري حديث، يٌنفذ من خلاله خطة الدولة ورؤية القيادة السياسية لا بالاجتهاد الفردي، بل بالعلم والمنهج والكفاءة التنفيذية، فالوزير الفاعل لا يجب أن يكون من حقل تجارب الأفكار أو التنظير، بل من مطبخ الإنجاز الحقيقي الذي يعرف تفاصيل العمل، وتحديات التنفيذ، ومسارات الإصلاح على أرض الواقع.
والحقيقة أن تحت بعض الوزراء الحاليين كفاءات استثنائية تمتلك علمًا أعمق وخبرة أوسع من وزرائهم، وقد حققت هذه الكفاءات إنجازات ملموسة بجهود تحملوا عبئها بنجاح وإنجاز، لكن غيوم بعض الوزراء تحجب ضوءهم عن الظهور، خوفًا من أن يلمحهم ضوء الاختيار، فيفضلون أن تُدفن إنجازات من حولهم في الظل، حتى لا يُقارن البريق، ومن هنا، فإن الجهات المعنية بترشيح الوزراء الجدد يجب أن تفتش - أولا - بعمق في مطبخ الأداء والإنجاز داخل الوزارات والهيئات، فربما هناك من يقود الملفات ذاتها بأسلوب أكثر إبداعًا وكفاءة، ويستحق أن يُمنح فرصة القيادة من موقع القرار لا من خلف الستار.
رابعا: التكنوقراط أم السياسي؟
طال الجدل بين من يرى الوزير التكنوقراط الأكثر كفاءة، ومن يفضل الوزير السياسي الأقدر على المناورة، لكن الحقيقة أن الجمهورية الجديدة تحتاج الوزير الذي يجمع بين العلم والوعي السياسي؛ من يفهم الأرقام والمجتمع معًا، ويعرف أن القرار الاقتصادي لا يعيش دون قبولٍ اجتماعي، وأن السياسة بلا علمٍ تتحول إلى انفعال.
ومن الضروري أن يكون للوزير في المرحلة القادمة خلفية علمية راسخة في الدراسات السياسية والإستراتيجية، فذلك لا يُعد ترفًا أكاديميًا، بل ركيزة أساسية في فهم العلاقة بين وزارته والأمن القومي المصري، الوزير الذي يدرك الأبعاد الإستراتيجية لقراراته، يرى وزارته كجزء من منظومة الدولة الكبرى، لا كجزيرة منفصلة، ويستوعب كيف يؤثر أداء قطاعه في استقرار المجتمع، وفي دعم السياسة العامة للدولة في الداخل والخارج.
إن امتلاك هذه الخلفية يمنحه بصيرة أعمق في قراءة التحديات، وتقدير المواقف، وصياغة السياسات، بما يجعل عمله متسقًا مع مسار الدولة الكلي، فكل وزارة اليوم، مهما بدت خدمية أو فنية، هي خط دفاع أو دعم في منظومة الأمن القومي، ومن ثم فإن الفهم السياسي والإستراتيجي لم يعد ميزة إضافية، بل شرطًا جوهريًا لاختيار الوزير القادر على القيادة لا التنفيذ فقط.
والوزير الناجح هو من يمزج بين العقل التكنوقراطي والقلب السياسي، فيوازن بين دقة الأرقام وحرارة الناس.
خامسا: نحو منهج مؤسسي للاختيار:
لا بد أن تتحول عملية اختيار الوزراء في مصر من قرارٍ اختياري إلى عملية مؤسسية منظمة، ويجب أن تمتلك الدولة مراكز تقييم للكفاءات العليا، تدرس السيرة والقدرة والسلوك القيادي والخلفية النفسية قبل التعيين، فالمناصب لا تُمنح بالثقة وحدها، بل بالقدرة على تحويل الرؤية إلى واقعٍ ملموس.
إن بناء الجمهورية الجديدة لا يحتاج إلى موظفين كبار، بل إلى صناع قرارٍ يؤمنون أن الوطن لا ينتظر تعليمات، بل ينتظر حلولًا.
وأخيرا، إن اختيار الوزير هو في جوهره اختيار لسرعة الدولة أو بطئها، لقوتها أو ضعفها، والحكومة القادمة مطالبة بأن تُعيد تعريف هذا الاختيار في ضوء ما تعلمناه من التجارب الماضية.
ففي زمن التحولات الكبرى، لا مكان لمن ينتظر، ولا وقت لمن يتردد، فقط من يصنع القرار، يستحق أن يكون في موقعه. وللحديث بقية.














0 تعليق