بين وعود السلام وواقع الميدان، تتبدّد آمال الهدنة الهشّة في غزة. فإسرائيل، التي وقّعت اتفاق «شرم الشيخ» تحت ضغط دولي، ما زالت تواصل خروقاتها اليومية، وكأنها تختبر حدود الصبر الإقليمي والدولي.
ورغم أن الاتفاق جاء محمّلًا بوعود إنهاء الحرب وإعادة الاستقرار إلى القطاع المنهك، فإن إسرائيل لم تتوقف عن ممارساتها العسكرية، متجاهلة الضغوط الدولية ومساعي الوسطاء لوقف إطلاق النار. ومع كل غارة جديدة أو اعتداء ميداني، يتأكد يومًا بعد آخر أن إسرائيل لا تلتزم بالعهود، ويبقى الميدان أسير التجاذبات السياسية والعسكرية.
تأتي هذه الخروقات في وقتٍ تُكثّف فيه واشنطن والقاهرة جهودهما لتثبيت اتفاق «شرم الشيخ»، وسط إدراكٍ متزايد بأن إسرائيل تستخدم سياسة «التصعيد المحسوب» لفرض معادلات جديدة على الأرض.
فبينما تبرّر عملياتها بأنها «دفاعية محدودة»، تُظهر الوقائع أن الهدف الحقيقي هو اختبار مدى صبر الوسطاء وقياس حدود ردّ الفصائل الفلسطينية دون الوصول إلى مواجهة شاملة.
وفي المقابل، يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة تحت وطأة قلقٍ دائم، فيما يواصل الاحتلال توسيع عملياته الميدانية، سواء عبر القصف المتقطّع أو من خلال اعتداءات المستوطنين على المزارعين والصيادين. وهكذا تبدو الصورة اليوم اتفاق هشّ، وميدان مشتعل، ووسطاء يسابقون الزمن لإنقاذ ما تبقّى من مسار السلام.
في أول بيان رسمي يصدر عن جيش الاحتلال منذ بدء الهدنة، أعلن الجيش الإسرائيلي تنفيذ ما وصفه بـ«ضربة دقيقة» استهدفت ناشطًا في حركة الجهاد الإسلامي وسط قطاع غزة، زاعمًا أن المستهدف كان «يخطط لشنّ هجوم وشيك ضد القوات الإسرائيلية».
اللافت في البيان أنه استخدم مصطلح «استهداف» بدلًا من «اغتيال»، في محاولة واضحة لتلطيف المصطلحات وتقديم العملية على أنها «وقائية» وليست تصعيدية، رغم أنها تمثّل خرقًا مباشرًا لبنود اتفاق وقف إطلاق النار المدعوم من واشنطن.
جاءت الضربة في وقتٍ كان فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعقد اجتماعًا مع أمير دولة قطر على متن الطائرة الرئاسية الأمريكية، لمناقشة سبل وقف إطلاق النار في قطاع غزة. وقال ترامب إن جهود إرساء الاستقرار في غزة «تحرز تقدمًا»، مؤكدًا أن الوضع في القطاع «يجب أن يقود إلى سلامٍ مستدام». كما تناول الاجتماع إمكانية نشر قوات دولية متعددة الجنسيات لحفظ الاستقرار في غزة.
هذا التزامن ليس صدفة، بل يعكس رغبة إسرائيلية في اختبار حدود الهدنة ومدى استعداد واشنطن لتقبّل خروقات «محدودة»، طالما أنها موجّهة ضد فصائل تصنّفها الولايات المتحدة كـ«منظمات إرهابية». ولم يسبق هذا الاستهداف أي تحرك من حركة حماس كما تدّعي إسرائيل في كل مرة.
وفي السياق ذاته، نقلت صحيفة هآرتس العبرية عن مصادر مطلعة أن الإدارة الأمريكية طلبت من تل أبيب إبلاغها مسبقًا بأي تحرك عسكري في القطاع، ما يشير إلى أن واشنطن كانت على علم بالضربة الأخيرة، أو على الأقل لم تعترض طريقها.
إلى جانب الضربة الجوية المباشرة، رُصدت انتهاكات عديدة، منها اعتداءات الاحتلال والمستوطنين على المزارعين الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم الزراعية القريبة من خطوط التماس شرقي القطاع.
كما أسفرت عملية اقتحام نفّذتها قوات الاحتلال في بلدة طوباس شرقي الضفة الغربية عن إصابة ثلاثة فلسطينيين، بينهم فتى، بعد إطلاق الرصاص الحي باتجاه مجموعة من الشبان خلال مواجهات اندلعت في الحي الشرقي للبلدة. واستمرت الاشتباكات لساعات قبل انسحاب القوات الإسرائيلية.
وفي سياقٍ متصل، أقدم مستوطنون إسرائيليون على إحراق مساكن فلسطينية في تجمع خلة السدرة شمال شرقي القدس المحتلة، ما أدى إلى تدمير عدد من الخيام والممتلكات الخاصة بالعائلات البدوية.
كما شهدت قرية المغير شمال شرقي رام الله هجومًا واسعًا نفّذه مستوطنون تحت حماية جنود الاحتلال، قاموا خلاله بإحراق ثلاث مركبات فلسطينية والاعتداء على المنازل بالحجارة والأسلحة النارية، ما تسبب بحالة من الهلع بين السكان، وغيرها من الانتهاكات.
ورغم تصاعد هذه الاعتداءات، لم يُسمح إلا بالدخول الجزئي للمساعدات الإنسانية إلى القطاع، في ظل تدهور الأوضاع المعيشية واستمرار القيود المفروضة على الحركة والإمدادات.
تكرار الخروقات الإسرائيلية للاتفاق يعكس استراتيجية ضغط ممنهجة تهدف إلى اختبار ردود الفعل الإقليمية والدولية، وقياس قدرة الوسطاء على فرض التزامات على الفصائل الفلسطينية دون تحميل إسرائيل مسؤولية مباشرة عن التصعيد.
واستمرار هذه العمليات قد يُضعف الثقة في الوسطاء، وقد يعيد الأوضاع إلى مربع المواجهة المفتوحة، خصوصًا مع غياب ضمانات تنفيذية واضحة لبنود الاتفاق.
خروقات ممنهجة تهدد استقرار الهدنة الهشّة، وفي ظل استمرار استهداف المدنيين والمزارعين وتدمير البنية التحتية، يُطرح السؤال: هل ما زالت إسرائيل تؤكد بهذه الخروقات أنها في حالة حرب فعلية؟
وتبرز مصر في هذا المشهد بوصفها الوسيط الأكثر ثباتًا ونفوذًا في إدارة ملفات التهدئة، إذ تواصل اتصالاتها المكثفة مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ومع الأطراف الدولية لضمان عدم انهيار اتفاق «شرم الشيخ».
وكان آخر تلك الجهود استضافة القاهرة اجتماعًا لعدد من الفصائل الفلسطينية، في إطار استكمال المساعي لوقف الحرب على غزة ومعالجة تداعياتها، وبحث المرحلة الثانية من اتفاق وقف الحرب، تمهيدًا لحوار وطني شامل لاستعادة الوحدة الوطنية.
غير أن قدرة القاهرة على تحقيق اختراق حقيقي تبقى مرهونة بمدى استعداد الأطراف، ولا سيما إسرائيل، للتعامل مع الجهود المصرية باعتبارها التزامًا سياسيًا لا مجرد وساطة ظرفية.
وفي غياب هذا الالتزام، سيظل اتفاق السلام يترنّح بين التعهدات الدبلوماسية وواقع الميدان الذي تفرضه آلة الاحتلال.

















0 تعليق