أعبر قاعة الانتظار الكبيرة بخطوات واسعة.. أتجاهل وجوه المنتظرين الكالحة.. حتى أصل لمنصة الاستقبال الضخمة ذات شعار: «معمل...».
أعطى الموظفة إيصال الاستلام.. تتفحصنى لثانية قبل أن تبتسم ابتسامة آلية وتشير لكراسى القاعة: اتفضلى استريحى دقيقتين...
أجلس تاركة كرسيًا فارغًا بجوارى.. أخرج هاتفى وأنظر فى شاشته؛ لكى لا أصبح هدفًا سهلًا لمحبى الثرثرة...
كلكوعة...
كلكوعة...
كلكوعة صغيرة فى جانب الصدر.. صغيرة جدًا.. أبحث عنها مرات ومرات ولا أجدها حتى أظنها مجرد وهم.. لكن حين تحسسها الطبيب أيقنت أنها موجودة حقًا.. صغيرة جدًا.. لكن مؤلمة.. ألمها يصل مباشرة إلى القلب.. فيزيد نبضاته...
- صغيرة جدًا.. حنعمل ماموجرام بس ماظنش حيأكد حاجة.. الأنسب ناخد عينة ونبعتها المعمل...
هو...
هو كان أول من اكتشفها.. لمسة قاسية منه لجانب صدرى.. شعرت معها بألم.. وسط أحاسيسى الأخرى.. وسمعته يتساءل وسط لهاثه: «إيه ده؟».
بعد ما انتهينا اقترب منى ومد أصابعه إلى صدرى مرة أخرى.
- عاوز إيه تانى؟!
- فيه حاجة فى صدرك...
- حاجة إيه؟!
- كلكوعة صغيرة كده...
انتفض قلبى حتى قبل أن يكمل:
- صفية طلع لها حاجة زى دى فى الأول برضه...
صفية.. أختى.. أختى المسكينة.. وكأن السنتين اللتين جاءتهما للدنيا مبكرًا كانتا مصدرًا للتعاسة لها.. حتى الاسم «صفية».. هى الكبرى فأخذت اسم جدتها.. لتعطينى فرصة الحصول على اسم عصرى: رنا...
فى يوم زفافى أذكر رقصنا معًا.. نرقص بجموح وانهماك كما لم نفعل من قبل.. نرقص.. نرقص.. نرقص ونضحك بوجوه تغمرها السعادة.. لكن قلبى يعتصره الحزن.. كنت أعرف أنها تتألم.. الورم ينهش صدرها.. لكنها أصرت أن تؤجل العلاج إلى أن يتم زفافى.
- أنا أختك يا رنا.. مين حيقف جنبك فى الفرح غيرى؟
- طب وصحتك؟!
- مش وقته.. ده وقت الفرح...
لكن الفرح أخذ ينسحب رويدًا من حياتنا.. بعد أيام عاد «أحمد» إلى عمله فى السعودية تاركًا خلفه وعودًا كثيرة.. رائحة جسده الساخنة.. وفراغًا كبيرًا فى قلبى...
مضت الأيام بعده ثقيلة بين جلسات علاج صفية وصور الأشعة والفحوص المتلاحقة.. مع الوقت بدا أنه آن الأوان قد فات.. تأجيلها للعلاج لم يترك لها فرصة...
فى ذلك اليوم.. فى المستشفى وأنا أساعدها على ارتداء مريلة العمليات.. نظرت صفية لصدرها لآخر مرة.. وقالت:
- أنا خايفة...
- ما تخافيش يا صفية.. حتعدى على خير إن شاء الله...
- أنا مش خايفة من العملية.. أنا خايفة من اللى بعد العملية...
ومدت يدها لتمسح دمعة هربت من عينها...
هو...
زوج صفية.. لم أشعر يومًا بالراحة معه.. ربما نظراته هى السبب.. نظراته قوية وحارقة.. منذ خطبته صفية وأنا أشعر بنظراته تخترق ظهرى حين أمشى أمامه.. استمر الأمر حتى بعد زواجهما وزواجى.. لكن بعد سفر أحمد صارت نظراته موجعة أكثر.. تخترقنى بقوة لتصل للفراغ الذى تركه أحمد.. فى قلبى...
حتى حين دخلت صفية المستشفى.. لم تخفت نظراته المختلسة.. بل صارت أكثر وضوحًا وثباتًا...
ليلتها.. قبل أن تفيق صفية من البنج.. طلبت منى أمى أن أذهب إلى منزلها لأحضر لها بعض ما قد يلزمها فى المستشفى.. وطلبت منه.. هو.. أن يوصلنى...
حين وصلت تركته خلفى واتجهت مباشرة إلى غرفتها.. فتحت الأدراج لأبحث عن ما.. لكن شعرت بنظراته تخترقنى.. التفتُ لأجده واقفًا.. جسده الضخم يسد باب الغرفة.. ونظرته تزداد اشتعالًا.. انتابتنى رعشة.. تراجعت خطوتين للوراء وقد انسدلت يداى بجانبى.. اقترب منى أكثر.. احتضننى بقوة.. حاولت أن.. أقاوم.. فلم أستطع.. قبلاته الموجعة تغرق وجهى ورقبتى و...
لم أستطع أن أقاوم.. لم أستطع...
- يا حبيبتى افهمينى بقى
أنا ما قدرش أنزل إجازة ولا أقدر أبعت لك تيجى دلوقت.
- إنت وعدتنى من قبل ما نتجوز إن كلها شهرين وححصلك.
- بس الظروف هنا فى السعودية اتغيرت خالص.
أنا بحارب عشان أفضل هنا أصلًا.
- يا أحمد حرام عليك.
من ساعة عملية صفية وأنا
أتوقف لأبحث عن نهاية للجملة.
- من ساعة عملية صفية وأنا تعبانة جدًا ومحتاجاك جنبى.
- معلش يا حبيبتى.
اصبرى الكام شهر دول بس.
كام شهر؟!.. كام شهر يابن الـ.
- طب لو الوضع صعب هناك ما تنزل تشوف شغل هنا.
- على الأقل تكون جنبى.
Seen √√
قاعة الانتظار الكبيرة فى المعمل الكبير...
ما زلت جالسة.. أحاول الهرب أكثر داخل شاشة هاتفى.. لكن لا أستطيع أن أمنع نفسى من الالتفات مرة بعد مرة لموظفات الاستقبال.. ها هى إحداهن تلتفت للجالسين.. تنظر للاسم المسجل على مغلف التقرير أمامها.. أتابع شفتيها وهى تجمع الحروف:
- عديلة عبد الرءوف...
لا.. مزيد من الانتظار!!...
أعود لشاشة الهاتف.. أكتب رسالة إلى أحمد فى بلاد الرمال:
- أنا بجيب نتيجة العينة من المعمل.. أول ما تطلع حطمنك
قبل أن أرسلها أمسح الكلمة الأخيرة.. وأغيرها:
-... أول ما تطلع حبلغك
وألمس زر الإرسال...
«اصبرى الكام شهر دول...»
كام شهر؟!.. كام شهر يا أحمد؟!
قلتَها كما لو أنها «كام ساعة».. «كام ثانية»
فى «الكام شهر دول» غرقتُ.. مع كل ثانية يندمج فيها لحمه فى لحمى.. أكره جسدى.. لحمى الملعون الذى وصل بى لهذا القاع.. تنفجر كراهيتى فى آهات يظنها «هو» آهات المتعة.. تنفجر كراهيتى فى دموع تغرق وجهى.. تنمل ملامحى...
ينظر لدموعى بنظرته الحادة.. وحين ننتهى ينظر لجسدى المنتهك بلوم
- بتعيطى ليه؟.. المفروض تكونى مبسوطة.
ويترك جسدى الدامع.. ويمضى...
كنت جالسة بجوار صفية.. التليفزيون يعرض فيلمًا صاخبًا ما.. صفية تطبق غسيل اليوم.. بينما أنا أقشر بطاطس الغداء بعناية...
- رنا.. أنا حاسة إن مجدى بيخونِّى.
أركز أكثر فى نصل السكين اللامع وأنا أبحث عن رد.
- إيه؟!.. إيه اللى خلاكى تشكى...؟
- أنا متأكدة مش شاكة...
أواصل سلخ البطاطس بهدوء وعناية...
- بس عارفة يا رنا.. أنا مش زعلانة.. بالعكس.. ده أنا المفروض أشكرها.. لأنها بتحافظ على بيتى.. بتديه اللى أنا ما قدرش أديهوله دلوقت.
ضحكتْ ضحكة عصبية وهى تنهى تطبيق جاكيت البيجامة.. لتلقيه بعنف فوق بنطلونه...
بعدها توقفت دموعى عن النزول وأنا معه...
قاعة الانتظار الكبيرة...
أكتب رسالة جديدة إلى بلاد الرمال:
- أحمد إحنا لازم نسيب بعض
طلقنى يا أحمد
أنظر للجملة على الشاشة دون أن أضغط للإرسال...
تمر الدقائق ونظراتى تتنقل بين الجملة.. وبين موظفة الاستقبال.. حتى...
- رنا محمد.. رنا...
أحد أطباء المعمل أتى خصيصًا لينادى اسمى.. أنظر له بالبالطو الأبيض وأشعر بالدوار.. يمد ذراعه البيضاء لى بمغلف التقرير:
- الحقيقة يا مدام رنا...
- لأه...
يندهش:
- لأه إيه يا فندم؟!.. أنا بس كنت عاوز أقول لحضرتك...
- مش عاوزة...
- إيه؟!
- مش عاوزة أعرف...
أخطف المغلف من يده وأطوحه بكل قوتى.. وأصرخ:
- مش عاوزة أعرف حاجة...
وأنطلق هاربة من القاعة...
0 تعليق