مؤخرًا، وبعد قمة شرم الشيخ للسلام، التقى الرئيس عبدالفتاح السيسى الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السودانى، فى إطار الجهود المصرية لوقف الحرب الأهلية السودانية، وتأكيد الرؤية المصرية على وحدة وسلامة الأراضى السودانية.
ولا أحد ينكر أن مصر حاليًا تمتلك ثقلًا إقليميًا لا يمكن إنكاره، ويضعها فى صدارة الدول التى ينتظر منها الاضطلاع بدور قيادى فى حل الأزمات المستعصية فى الشرق الأوسط وإفريقيا. وقد شهدت السنوات الأخيرة بروز الدور المصرى فى أشد النزاعات اشتعالًا، وأبرزها وقف الحرب الإسرائيلية. ومع تصاعد وتيرة الحرب الأهلية فى السودان الشقيق، أصبح على الدبلوماسية المصرية أن تثبت قدرتها على تكرار نجاحها فى مسرح آخر، بظروف وتحديات مختلفة تمامًا.
وقد مثلت مصر حجر الزاوية فى مفاوضات التهدئة فى غزة، خاصة فى أوقات التصعيد العسكرى الإسرائيلى. وكانت القاهرة، ولا تزال، المنصة الرئيسية التى تستضيف جولات الحوار. ويرجع نجاح مصر فى إيقاف الحرب الإسرائيلية إلى خبرتها الطويلة فى إدارة هذه الملفات، وقدرتها على تقديم ضمانات للأطراف، بالإضافة إلى دعمها اللوجستى والإنسانى الثابت لقطاع غزة. وهذا الدور نموذج للدبلوماسية الهادئة والفعالة التى تركز على إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة الإنسانية.
لكن الانتقال من ملف غزة المعقد إلى مستنقع الحرب الأهلية السودانية يمثل قفزة نوعية فى حجم التحدى. فالسودان يرتبط بمصر بعمق تاريخى وثقافى وجغرافى، ويمثل أولوية قصوى للأمن القومى المصرى، واستقرار السودان يعنى استقرار حدود مصر الجنوبية، وتحقيق الأمن المائى، وتجنب موجات اللجوء الهائلة. ومع اندلاع القتال بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع وجدت مصر نفسها أمام مهمة صعبة للغاية، وهى الوساطة بين جيشين داخل دولة واحدة، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية بطريقة أكثر تعقيدًا مما هى عليه فى غزة.
لم تتردد مصر فى استخدام نفوذها، فقد سارعت إلى استضافة «قمة دول جوار السودان» كأول استجابة إقليمية منظمة لوقف إطلاق النار وتسهيل المساعدات الإنسانية. كان الهدف المصرى واضحًا، وهو توحيد الرؤى الإقليمية، خاصة من دول الجوار التى تتأثر مباشرة بالصراع، وتجنيب السودان مصير التفكك. ويتطلب الملف السودانى جهدًا متعدد الأطراف، يضم الاتحاد الإفريقى ومنظمة الإيجاد والقوى الدولية الفاعلة.
وتتركز الجهود المصرية على محاور رئيسية وهى تأمين الحدود الشمالية واستقبال اللاجئين السودانيين الذين فروا من ويلات الحرب، ما يمثل تحديًا إنسانيًا ولوجستيًا كبيرًا. وتقوم مصر بالدفع فى اتجاه وقف دائم لإطلاق النار عبر التواصل المباشر مع قيادات الجيش وقوات الدعم السريع، مستندة إلى تاريخ طويل من العلاقات العسكرية والأمنية. كما تعمل على إيجاد مسار سياسى شامل يعيد الدولة السودانية إلى الوحدة، وهو الجانب الأكثر صعوبة بسبب الانقسام العميق داخل الصف السودانى.
فى المقارنة بين المسارين، يتضح أن مصر تتبع استراتيجيات مختلفة. فى غزة، كانت الأولوية لإدارة الأزمة والتهدئة الفورية، أما فى السودان فالأولوية لحل الأزمة جذريًا ومنع انهيار الدولة. التحدى فى الخرطوم ليس مجرد وقف تبادل إطلاق النار، بل إقناع الأطراف المتنازعة بالوحدة السودانية وسلامة الأرض، وتفكيك القوة العسكرية غير الشرعية، وهى عملية داخلية حساسة لا يمكن فرضها من الخارج بسهولة. علاوة على ذلك تواجه مصر فى السودان منافسة وتداخلًا من قوى إقليمية أخرى لها مصالح متباينة، ما يجعل تنسيق الجهود الدبلوماسية أمرًا شاقًا.
إن نجاح مصر فى تحقيق التهدئة فى الصراع الإسرائيلى الفلسطينى يمنحها رصيدًا دبلوماسيًا كبيرًا. فالنجاح فى وقف الحرب الأهلية السودانية لن يكون مجرد انتصار للدبلوماسية المصرية، بل سيكون انتصارًا للأمن القومى المصرى بالدرجة الأولى، وللاستقرار الإقليمى الذى بات مهددًا بشدة. وتتطلب هذه المهمة صبرًا استراتيجيًا، وحنكة دبلوماسية، وقدرة على الموازنة بين المصالح الداخلية والخارجية، وهى مقومات تمتلكها الدولة المصرية، ولكنها تحتاج إلى تفعيلها بأقصى درجات الحذر والمهارة فى ظل تعقيدات المشهد السودانى الراهن.
0 تعليق