أسعدنى جدًا الأخ والصديق العزيز الدكتور محمد الباز بالحديث عن رد الاعتبار للرئيس الراحل أنور السادات، من خلال مقالين مهمين نشرهما على مدار أسبوعين فى جريدة «حرف» الثقافية، أحد الإصدارات العظيمة التى تصدرها مؤسسة «الدستور» الصحفية. لقد تحدث الدكتور الباز فى قضية بالغة الأهمية، خاصة بعدما نال السادات تشويهًا كبيرًا على يد دراويش الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
والذى لا يعرفه الكثيرون أننى تعرضت لأزمات كثيرة فى مطلع شبابى أثناء دراستى الجامعية فى عهد السادات وصلت إلى حد السجن. لكن الأمانة ونضجى السياسى يحتمان علىّ الآن أن أكون منصفًا للسادات الذى يعد أحد رجالات مصر العظماء، والذى نال تشويهًا بالغ الخطورة رغم ما قدمه هذا الزعيم لمصر من إنجازات كبرى.. ولذلك سعدت جدًا بمقالىّ الدكتور الباز اللذين تحدث فيهما بجرأة شديدة عن هذا الزعيم العظيم.
لم يكن اغتيال الرئيس السادات فى السادس من أكتوبر عام ١٩٨١ مجرد حادث مؤسف فقط، بل كان نقطة تحول أثارت عاصفة من الجدل والتباين حول شخصيته وقراراته، لسنوات طويلة بعد رحيله. لقد بقى إرث «بطل الحرب والسلام» منقسمًا بين مؤيد ومعارض، خاصة فيما يتعلق بقراره التاريخى بإبرام معاهدة السلام مع إسرائيل. ولكن مع مرور العقود من الزمن، بدأ التاريخ يعيد النظر، وأخذت الأصوات تنادى بضرورة رد الاعتبار لهذا القائد الاستثنائى، اعترافًا بعبقرية رؤيته وبُعد نظره فى حماية المصالح الوطنية المصرية العليا. وهذا ما أشار إليه الدكتور الباز من خلال الأحاديث الكثيرة التى أوردها على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى.
لقد كان السادات، الذى قاد مصر إلى نصر أكتوبر المجيد عام ١٩٧٣، شخصية فريدة جمعت بين شجاعة المقاتل وحكمة السياسى. ففى أعقاب الانتصار العسكرى الذى حطم أسطورة «الجيش الذى لا يُقهر»، وأعاد الكرامة للأمة العربية جمعاء، لم يكتفِ بالنصر فى الميدان، بل اتجه إلى المفاوضات بشجاعة القرار، مدركًا أن الحرب لا يمكن أن تكون نهاية المطاف، وأن السلام هو الطريق الوحيد لاستعادة الأرض المحتلة.
وزيارته التاريخية للقدس عام ١٩٧٧، التى اعتبرها البعض خروجًا على الإجماع العربى، كانت فى جوهرها خطوة جريئة تهدف إلى كسر الجمود واستخدام ورقة الحرب لتحقيق سلام حقيقى. لكن هذه الخطوة رغم أنها مهدت لاسترداد كامل سيناء لاحقًا، فإنها وضعت السادات فى مواجهة تيار عارم من الرفض العربى، فضلًا عن المعارضة الداخلية من قوى سياسية ودينية رأت فى قراره خيانة للقضية القومية. وأدى هذا الرفض والعداء إلى حالة من العزلة العربية والمحلية، بلغت ذروتها باغتياله على يد متطرفين رأوا فى سياساته طغيانًا ومصادقة للصهاينة. وفى السنوات التى تلت الاغتيال ظل النقد يطغى أحيانًا على التقدير، وتشوهت صورته لدى أجيال لم تعاصر تحديات تلك الحقبة.
إن عملية رد الاعتبار للسادات لم تكن حدثًا واحدًا، بل عملية تاريخية تدريجية، بدأت مع الأجيال التى عايشت فترة حكمه وشهدت العزلة، ثم امتدت لتشمل الأجيال اللاحقة التى بدأت تدرك قيمة الإنجاز العسكرى والسياسى الذى حققه. وقد تجلت هذه العملية فى عدة مستويات كما ظهر فى مقال الباز، فقد بدأت الدولة المصرية بشكل متزايد فى الاحتفاء بالسادات كبطل الحرب والسلام، وليس فقط كأحد الرؤساء السابقين. وكذلك التكريمات الرسمية فى ذكرى نصر أكتوبر، وتسمية المعالم والشوارع باسمه، وإلقاء قادة الدولة كلمات تذكّر بفضله وشجاعته، كلها خطوات رسمية تعيد مكانته الوطنية. وقد أشار محللون وكتّاب إلى أن مواقف الرئيس السيسى رسخت مكانة السادات كقائد استثنائى، ما يمثل رد اعتبار واضحًا لقيمة ما تركه وفعله للوطن.
وشهدت الساحة الفكرية والثقافية تحولًا، كما قال الدكتور الباز، حيث صدرت كتب ودراسات ومقالات تعيد تقييم الحقبة الساداتية بموضوعية أكبر، واعترفوا بصحة رؤيته وبُعد نظره فى القرارات التى اتخذها. واليوم، بعد عقود من وفاة السادات، يدرك الجميع أن قراراته، خاصة فى الحرب والسلام، كانت تهدف فى المقام الأول إلى إخراج مصر من دائرة الاستنزاف العسكرى وتكريس جهود التنمية.
لقد كان السلام الذى حققه هو الأساس الذى قامت عليه عملية بناء طويلة الأمد، ونجحت به مصر فى استرداد الأرض بالكامل.
رد الاعتبار للرئيس السادات اعتراف من الأمة بأن التاريخ لا يحاكم الرؤساء بسطحية اللحظة، بل بعمق الرؤية وثمار القرارات على المدى الطويل. والسادات لم يمُت شهيدًا فحسب، بل بقى إرثه درسًا فى الشجاعة السياسية والوطنية، وها هو التاريخ يمنحه التكريم الذى يستحقه.
وشكرًا من الأعماق للدكتور الباز الذى يدعو إلى رد الاعتبار للسادات الوطنى صاحب الرؤية السديدة والثاقبة.
0 تعليق