حين أمسك جورج إيستمان أول شريط فيلم فوتوغرافي في يده عام 1888، لم يكن يدرك أنه يفتح بابًا جديدًا لتاريخ الإنسانية، وأن تلك اللحظة الصغيرة ستغير الطريقة التي يرى بها البشر أنفسهم والعالم من حولهم، لقد منح الإنسان ذاكرة بصرية، تحفظ لحظات الحياة وتوثق التاريخ بالصورة بعد أن كان مجرد كلمات وحكايات.

البداية من شغف بسيط
ولد جورج إيستمان في 12 يوليو 1854 بمدينة واترفيليت بولاية نيويورك الأميركية، ونشأ في أسرة متواضعة، توفي والده وهو في السادسة من عمره، فاضطر للعمل مبكرًا لمساعدة أسرته، كانت بدايته بسيطة كمحاسب في أحد البنوك، لكن حياته تغيرت حين قرر عام 1877 أن يسافر لتصوير رحلته إلى جزيرة سانتو دومينغو، فاكتشف أن عملية التصوير في ذلك الوقت معقدة ومكلفة، وتحتاج إلى معدات ثقيلة.
من هنا بدأ شغفه الحقيقي: كيف يمكن جعل التصوير سهلًا في متناول الجميع؟

ابتكار غير وجه العالم
انكب إيستمان على التجارب، واستعان بخبراء الكيمياء لتطوير مواد جديدة، وفي عام 1884 سجل براءة اختراعه لأول شريط فيلم فوتوغرافي مرن بديل للألواح الزجاجية الثقيلة التي كانت تُستخدم آنذاك، بعد أربع سنوات فقط، أسس شركته الشهيرة “إيستمان كوداك”، وطرح أول كاميرا تجارية في التاريخ تحت شعار أصبح أيقونة القرن العشرين:
"أنت تضغط الزر، ونحن نقوم بالباقي."
هذا الشعار البسيط غير علاقة الإنسان بالصورة، إذ لم تعد حكرًا على المصورين المحترفين، بل أصبحت هواية جماهيرية ووسيلة توثيق للحياة اليومية، وبفضل اختراع إيستمان، ولدت السينما لاحقًا على يد الأخوين لوميير، وبدأت رحلة الصورة المتحركة التي صنعت ذاكرة القرن كله.

الكاميرا التي جعلت العالم يتذكر
من خلال أفلامه السهلة الاستخدام، جعل إيستمان التصوير جزءًا من الحياة اليومية: حفلات الميلاد، الرحلات، الحروب، الاكتشافات، كلها أصبحت تحفظ على أشرطة صغيرة تدون التاريخ في صمت، لقد منح اختراعه العالم ذاكرة بصرية ممتدة، وأتاح للأجيال أن ترى الماضي بعيون الحاضر.
لم يكن إيستمان مجرد مخترع، بل أيضًا رجل أعمال مستنير وإنساني، فقد تبرع بجزء كبير من ثروته للجامعات ومراكز البحث، وأسس نظامًا داخليًا في شركته يراعي حقوق العمال، وكان يؤمن بأن العلم يجب أن يخدم الإنسانية قبل أن يخدم الربح.

نهاية حزينة وميراث خالد
رغم نجاحه الساحق، عاش إيستمان سنواته الأخيرة في عزلة بعد إصابته بمرض مؤلم أفقده القدرة على الحركة، وفي عام 1932 أنهى حياته برصاصة واحدة، تاركًا رسالة قصيرة قال فيها:
“عملي تم، فلمَ الانتظار؟”
لكن إرثه لم ينته، فاختراعه ظل حيًا حتى بعد قرن من رحيله، إذ قامت عليه صناعة السينما والتصوير الفوتوغرافي التي وثقت كل لحظة من تاريخ القرن العشرين.
لقد غير جورج إيستمان نظرة البشر إلى الزمن، وعلمهم أن اللحظة لا تموت ما دامت الصورة قادرة على حفظها، وهكذا، لم يكن مجرد مخترعٍ لشريط الفيلم، بل كان مؤسس ذاكرة العالم الحديث.
0 تعليق