قادت مصر جهودًا حثيثةً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، استنادًا إلى اقتراحٍ الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي يدعو إلى وقف الحرب بين إسرائيل وحماس، وإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين، إضافةً إلى تيسير تدفّق المساعدات إلى القطاع المُحاصَر منذ عامين كاملين.. وصادقت الحكومة الإسرائيلية على اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النار، الذي تمّ التوصّل إليه مع حركة حماس في مدينة شرم الشيخ، ما يمهّد الطريق لوقف العدوان وإطلاق سراح المحتجزين، ضمن المرحلة الأولى من مبادرة ترامب لإنهاء الحرب.. وقد دخل اتفاقُ وقفِ إطلاقِ النار في قطاع غزة حيّز التنفيذ منذ ظهيرة يوم الجمعة الماضي، حيث بدأ آلافُ الفلسطينيين الذين نُزحوا قسرًا إلى وسط وجنوبيّ القطاع بالعودة إلى شماله، بعد أن أعلنت قواتُ الاحتلال الإسرائيلي فتحَ طريقي الرشيد الساحلي وصلاح الدين أمامهم للعودة، بالتزامن مع انسحابٍ تدريجيٍّ للآليات العسكرية الإسرائيلية من مناطق في عمق المدينة.
وتستضيف مصر غدًا في مدينة شرم الشيخ، قمةً دوليةً برئاسةٍ مشتركةٍ بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الأمريكي، دونالد ترامب، بمشاركة قادة أكثر من عشرين دولة، تحت عنوان (قمة شرم الشيخ للسلام)، لإنهاء الحرب في قطاع غزة، وتعزيز جهود إحلال السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، في خطوةٍ تعكس الجهود المصرية المتجددة لإحياء مسار السلام في الشرق الأوسط، ووضع حدٍّ للتوترات المتصاعدة في المنطقة، وتعزيز الاستقرار الإقليمي.. وتأتي الدعوة إلى القمة بهدف جمع الأطراف الفاعلة بالقضية الفلسطينية على طاولة واحدة، لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وإحياء مسار المفاوضات السياسية، إذ ستتناول القمة عددًا من الملفات المحورية، أبرزها تثبيت التهدئة، وضمان تدفّق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، واستئناف مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. وتسعى القاهرة من خلال القمة، إلى بلورة رؤيةٍ مشتركةٍ لإعادة الاستقرار إلى المنطقة، وإطلاق مسارٍ سياسيٍّ شاملٍ يضع حدًّا للأزمات المتكررة، ويؤسس لمرحلةٍ جديدةٍ من السلام والتنمية.. وتحظى القمة باهتمامٍ واسعٍ من المجتمع الدولي ووسائل الإعلام العالمية، التي ترى فيها فرصةً لإعادة إحياء الجهود الدبلوماسية بعد سنواتٍ من الجمود، وسط آمالٍ بأن تفتح مداولاتها صفحةً جديدةً من التفاهم الإقليمي والتعاون الدولي بما يخدم أمنَ واستقرارَ الشرق الأوسط.
كل ذلك، لم يمنع البعض من طرح بعض الأسئلة المهمة، وعلى رأسها ما طرحه دانيال بايمان، الأستاذ في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورجتاون، ومدير برنامج الحرب والتهديدات غير النظامية والإرهاب في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، في مفال له بصحيفة Forign Policy، الذي يرى أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره بين إسرائيل وحماس، والجاري تنفيذه حاليًا في غزة، يتضمن مكاسبَ كبيرةً لكلا الجانبين.. ستستعيد إسرائيل رهائنها المتبقين ـ يُعتقد أن حوالي عشرين منهم على قيد الحياة ـ إلى جانب جثث آخرين.. وفي المقابل، ستفرج عن حوالي ألفي أسير فلسطيني، وفقًا للتقارير، وستُنهي حربها المستمرة منذ عامين على غزة، وستسحب قواتها من أجزاء كبيرة من القطاع. وهو ما تستحق إدارة ترامب ودول الوساطة، وعلى رأسها مصر، الثناء على جهودها في دفع الاتفاق إلى الأمام.
لكنه يعود إلى القول، بأن المخطط الأساسي للاتفاق كان مطروحًا على الطاولة منذ أشهر عديدة.. وبقبوله، يتنازل كلا الجانبين عن مطالب رئيسية.. كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد تعهد بتدمير حماس، إلا أن الحركة لا تزال الطرف الأقوى في غزة.. في المقابل، أرادت حماس انسحابًا إسرائيليًا كاملًا وضماناتٍ بعدم استئناف إسرائيل لعملياتها، وكلاهما لا يزال غير مؤكد.. فلماذا اتفق الجانبان على ما هو أقل من أهدافهما القصوى؟.. ولماذا الآن؟.
لنبدأ بحماس، التي لطالما تشبثت بالرهائن كنوع من الضغط.. احتجزت حماس رهائن عندما هاجمت في السابع من أكتوبر 2023، لأنها كانت تعلم أن إسرائيل ستقدم تنازلاتٍ كبيرة لاستعادتهم.. في عام 2011، أفرجت إسرائيل عن أكثر من ألف أسير فلسطيني، مقابل الجندي جلعاد شاليط، الذي أسرته حماس أيضًا.. بالإضافة إلى سعيها للحصول على مثل هذه التنازلات الضخمة، ربما كان قادة حماس قلقين من أن التخلي عن جميع الرهائن، سيُطلق العنان لإسرائيل لشن هجماتٍ أكثر عدوانية على غزة.. ومع ذلك، بدا الرهائن بشكل متزايد هدفًا ضعيفًا لحماس لتتشبث به.. ورغم أن مصيرهم يشغل بال الكثير من الإسرائيليين، إلا أن هذا القلق لم يُكبح جماح العمليات العسكرية الإسرائيلية.. لطالما أولت إسرائيل الأولوية لقتل قادة حماس ومقاتليها، كمحاولة هدم الأنفاق، حتى لو كان ذلك يُعرّض حياة الرهائن للخطر.. وكان توغلها الأخير في عمق مدينة غزة، أحدث مؤشر على أن خطر الرهائن لم يكن عائقًا.. ومع الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة، تستطيع حماس على الأقل استخدام الرهائن لتحقيق نصرٍ ما، مما يُجبر إسرائيل على الانسحاب، وفي الوقت نفسه، يُطلق سراح الأسرى الفلسطينيين.
حماس نفسها مُنهكةٌ جراء عامين من قتال القوة الإسرائيلية الجبارة.. قتلت إسرائيل العديد من كبار قادة الحركة، بمن فيهم يحيى السنوار، الذي دبر هجوم السابع من أكتوبر، كما قتلت أو حاولت قتل قادة حماس في إيران ولبنان وقطر، فلم يبدُ أي مكان آمن لهم.. في يناير الماضي، زعمت إسرائيل أنها قتلت ما يقرب من عشرين ألف مقاتل من حماس.. الأرقام الدقيقة متنازع عليها، لكن الأعداد مرتفعة بالتأكيد.. فجندت حماس مقاتلين جدد، لكنهم غير مدربين وأقل مهارة.. لم تنجُ سوى عائلات فلسطينية قليلة في غزة دون خسائر، تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين السبعة وستين ألفًا الأسبوع الماضي، وغزة نفسها مُدمرة.. ولطالما تمنى الفلسطينيون هناك انتهاء الحرب.. على حافة المجاعة ونقص الرعاية الطبية، نزح الفلسطينيون باستمرار بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية.. كان كل يوم إضافي من الحرب بمثابة عذاب، والآن، يأملون، أن تتدفق المواد الغذائية والأدوية إلى غزة، وأن تبدأ إعادة الإعمار قريبًا.
الإسرائيليون أيضًا منهكون من عامين من الحرب الطاحنة.. إن الاستدعاءات المستمرة للاحتياط تُرهق الأسر الإسرائيلية واقتصاد البلاد.. فقدت إسرائيل قرابة الخمسمائة جندي، وهو عدد كبير مقارنةً بحروب غزة السابقة.. لذلك، ففي استطلاع حديث للرأي، أيد ثلثا الإسرائيليين وقف إطلاق النار.. كما واجه الجانبان ضغوطًا دولية.. في يوليو، دعت جامعة الدول العربية حماس إلى نزع سلاحها وإنهاء حكمها في غزة، كما أدانت صراحةً، ولأول مرة، هجوم السابع من أكتوبر.. دعت الدول الأوروبية مرارًا وتكرارًا إلى وقف إطلاق النار وانتقدت العمليات الإسرائيلية، حيث اعترفت كندا وفرنسا والمملكة المتحدة رسميًا بدولة فلسطينية.
عادةً ما تتجاهل إسرائيل الضغوط الأوروبية، لكنها لم تستطع تجاهل دونالد ترامب.. فالرئيس الأمريكي يتمتع بقوة سياسية عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.. لو كان جو بايدن قد ضغط على نتنياهو للتوصل إلى اتفاق وقاوم نتنياهو، لكان جميع الجمهوريين تقريبًا وبعض الديمقراطيين قد انحازوا إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي.. عندما يفعل ترامب ذلك، فإن معظم الديمقراطيين يتفقون، ويمكن لترامب أن يساند حزبه.. يُضفي ترامب طابعًا شخصيًا على السياسة، ولا بد أن نتنياهو قلق من أنه إذا تجاهل الرئيس، فلن يسامحه ولن ينسى له موقفه.
في سوريا واليمن وقضايا إقليمية أخرى، اتخذ ترامب مواقف متعارضة مع مواقف إسرائيل.. كما تلعب ضمانات ترامب الأمنية لقطر دورًا مهمًا.. فقد استشاط ترامب غضبًا عندما هاجمت إسرائيل قطر، الشريك الوثيق للولايات المتحدة، والتي دأبت على التودد إلى الرئيس نفسه بهدايا مثل الطائرة الفاخرة.. ومن خلال وعدها بحماية قطر، تُمكّن الولايات المتحدة قطر من أن تكون ملاذًا آمنًا لأعضاء حماس الذين قد يكونون على قائمة أهداف إسرائيل لو بقوا في غزة.
بالنسبة لنتنياهو، كان تزايد الضغط الأمريكي بعد غارة قطر يعني أن وقت اتخاذ القرار قد حان.. فبالإضافة إلى الإرهاق العام والدعم الشعبي لاتفاق إعادة الرهائن إلى الوطن، كان ائتلاف نتنياهو نفسه يتداعى بالفعل، بسبب قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في يونيو، بوجوب أداء الحريديم للخدمة العسكرية.. كان تحدي ترامب في حربٍ تتراجع شعبيتها بشكل متزايد، محفوفًا بالمخاطر الاستراتيجية والسياسية لنتنياهو.. وكما يدرك معظم الإسرائيليين أهمية العلاقات القوية مع الولايات المتحدة، يمكنه الاستشهاد بضغط ترامب كسبب للانسحاب أخيرًا دون أن يفقد مصداقيته بين اليمين الإسرائيلي.. نتنياهو أيضًا بارع في السياسة، ومع دخول إسرائيل موسم الانتخابات، يمكنه الآن أن يصوّر نفسه على أنه الرجل الذي حطم حماس وحزب الله وأعاق البرنامج النووي الإيراني.. يُعدّ الاتفاق الحالي إنجازًا كبيرًا وخطوةً مهمةً للأمام لكلٍّ من غزة وإسرائيل، لكن صموده سيُصبح أصعب.. والخبر السار، هو أن بعض العوامل التي ساهمت في التوصل إلى اتفاق، مثل الإرهاق لدى الجانبين والضغط العربي والأوروبي، من المرجح أن تستمر.. أما العوامل الأخرى فهي أضعف.. ولكسب ميزة سياسية خلال موسم الانتخابات، قد ينتهك نتنياهو وقف إطلاق النار ـ باستهداف قائدٍ من حماس، على سبيل المثال ـ أو يماطل في تقديم تنازلاتٍ لا تحظى بشعبية، مثل إطلاق سراح زعيمٍ فلسطينيٍّ مكروهٍ للغاية من سجون إسرائيل.. أما حماس، فقد تُبرر ذلك بأنها لا تستطيع المخاطرة بفقدان السلطة كليًا في غزة، أو التخلي عن مكانتها التي اكتسبتها بشق الأنفس كحركة المقاومة الفلسطينية الأبرز.
كل هذا يعني، أن على الولايات المتحدة التنسيق باستمرار مع شركائها والضغط على جميع الأطراف لاحترام الاتفاق، والانتقال إلى خطواتٍ أكثر طموحًا، تشمل إعادة إعمار غزة، وعودة حكومةٍ غير تابعةٍ لحماس، والتقدم نحو دولةٍ فلسطينية.. أما ترامب، فهو متقلب.. قد تتغير مواقفه؛ قد يُركز على مشكلةٍ مختلفة أو يُخفف الضغط على إسرائيل.. في نهاية المطاف، لا يُمثل الاتفاق انتصارًا لأيٍّ من الجانبين، بل هدنة مضطربة ناجمة عن الإرهاق والضغط والحسابات السياسية.. وسيعتمد استمراره على رغبة جميع الأطراف ـ وخصوصًا واشنطن ـ في تحويل وقف إطلاق النار الهش هذا، إلى أساس لتسوية أكثر استدامة، أكثر من نص الاتفاق.
●●●
لقد اجتمعت مجموعة من العوامل لتؤدي إلى ترجيح كفة الميزان نحو وقف الحرب في غزة، كما يرى جيسون بيرك، مراسل الأمن الدولي في صحيفة The Guardian البريطانية، إذ يقول، إن حروب إسرائيل انتهت، مرارًا وتكرارًا، بتدخل القادة الأمريكيين بقوة.. ويبدو أن نتنياهو، الذي يعاني أصلًا من عزلة دولية وضغوط متزايدة في الداخل، قد حسب أنه لا يستطيع المخاطرة بدعم أقوى حلفاء بلاده وأكثرهم ثباتًا برفضه وقف الهجوم المتواصل على غزة.. ومن المرجح أيضًا أن يكون نتنياهو قد حكم، بأنه قادر على التغلب على معارضة أي اتفاق من جانب أعضاء اليمين المتطرف في حكومته الائتلافية، وخصوصًا إذا كانت شروط أي اتفاق لصالح إسرائيل، كما يبدو هو الحال في الوقت الراهن.
في الوقت نفسه، لم تتمكن حماس من إلحاق خسائر فادحة بالقوات الإسرائيلية في غزة أو إبطاء تقدمها بفعالية.. وتتعرض الحركة المتشددة لضغوط من قطر ومصر وتركيا لتقديم تنازلات، وسيبدو مستقبلها محفوفًا بالمخاطر دون قدرٍ من الدعم من هذه القوى الإقليمية، أو على الأقل تفاهمٍ فيما بينها.. ويبدو أن قادة حماس، الذين يعيش معظمهم خارج غزة، قد اقتنعوا جزئيًا على الأقل، بحجة أن الرهائن الذين يحتجزونهم أصبحوا عبئًا، وأنهم يمنحون إسرائيل ذريعةً لمواصلة الصراع.. ففي نهاية المطاف، يمكنهم الادعاء بأن البقاء انتصار.. ولكن هل هذه مجرد خطوة أولية؟.
نعم، وربما هي الأسهل.. ولكن لا يزال من غير الواضح على وجه التحديد، مقدار الأرض التي سوف تتخلى عنها القوات الإسرائيلية ـ إذ تتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية عن احتفاظها بأكثر من نصف غزة في الوقت الراهن ـ وما هو الجدول الزمني الممكن لانسحاب جزئي حتى.. من غير الواضح أيضًا ما إذا كانت حماس ستُسلّم سلاحها، وبأي طريقة، ومن المرجح أن يُشكّل هذا الأمر إشكاليةً بالغة.. ويبدو من غير المُرجّح، أن تقبل حماس ومقاتلوها في غزة بالعفو أو أن يُغادروا إلى المنفى، كما تُحدّد خطة ترامب المُكوّنة من عشرين نقطة.. ثم هناك مسائل أخرى تنتظر الحل.. شكل الحكم في غزة بعد انتهاء الحرب بشكل حاسم، وإمكانية إعادة إعمار القطاع المدمر، ومن يمكنه توفير قوات لقوة (استقرار) دولية، وغير ذلك الكثير.. كل هذا لم يُتفاوض عليه بالكامل بعد، أو حتى يُتفق عليه صراحةً من حيث المبدأ.. فهل يمكن أن تبدأ الحرب مرة أخرى؟.
هناك عدة مسارات محتملة قد تؤدي إلى تجدد الصراع، ولكن يبدو من غير المرجح عودة سريعة للأعمال العدائية.. والأرجح أن نشهد صمود وقف إطلاق النار الهش لأسابيع، بل أشهرًا، مع تعثر المفاوضات بشأن مراحل أخرى، ثم تستأنف الحرب عندما يقرر أي من الطرفين أنه يستطيع تحقيق مكاسب من خلال المزيد من القتال.. وبتفاؤل أكبر، يبدو ما يحدث الآن مختلفًا تمامًا عن وقف إطلاق النار السابق في نوفمبر 2023 ويناير 2025، ويبدو أن كلًا من حماس ونتنياهو يعتقدان أنهما قادران على تحقيق مكاسب أكبر من مجرد استمرار الصراع.. وهذا أمر بالغ الأهمية، ويبعث على الأمل.. إن هذا يعني، أن على القوى الإقليمية أن تظل منخرطة، وسيتعين على الزعماء الدوليين المخاطرة بدفع الطرفين إلى القيام بأشياء لا يريدون القيام بها، ويجب على حماس أن تظل مقتنعة بأن المزيد من العنف لن يخدم قضيتها ـ أو القضية الأوسع نطاقًا لجميع الفلسطينيين ـ ويجب أن تعمل الحملة الانتخابية الوشيكة في إسرائيل على تعزيز أي اتفاق بدلًا من تقويضه.
ربما الأهم من ذلك كله، يجب على ترامب أن يظل مهتمًا بتأمين سلام طويل الأمد في غزة، بل وحتى بعودة دبلوماسية أوسع نطاقًا إلى الشرق الأوسط.. جميعها احتمالات كبيرة، ولكن بعد مرور عامين تقريبًا على أحداث السابع من أكتوبر 2023 التي أشعلت فتيل الحرب، والهجوم الإسرائيلي المتواصل الذي حوّل غزة إلى خراب دامٍ، ربما يكون هذا الصراع قد شارف على نهايته.
●●●
إلا أنه، في رأي، جوست هيلترمان وناتاشا هول، من صحيفة Foreign Affairs، أن صفقة غزة ليست كبيرة إلى الحد الذي لا يسمح بفشلها!!.. فإذا كان التاريخ مؤشرًا، فقد تخيب آمال الفلسطينيين بسلام دائم أو حتى إغاثة مستدامة.. لقد عاد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير من هذا العام، عازمًا على استبدال سياسة سلفه، جو بايدن، الفاشلة في الشرق الأوسط.. وقد فعل ذلك بطرقٍ تختلف عن سياسات إدارته الأولى.. انطلقت ولايته الثانية بدايةً مُبهرة، حيث ساعد في تأمين وقف إطلاق النار في غزة، حتى قبل أن تبدأ ولايته فعليًا.. وفي الأشهر القليلة الأولى من ولايته، تلت ذلك خطواتٌ أكثر جرأة، بما في ذلك فتح قناة اتصال مباشرة غير مسبوقة من الولايات المتحدة إلى حماس، واستئناف المفاوضات النووية مع إيران، والتوصل إلى هدنة مع الحوثيين في اليمن، وإلغاء العقوبات الأمريكية على سوريا.
أعرب مسئولون في واشنطن عن أملهم في إمكانية توسيع نطاق اتفاقيات أبراهام، وهي اتفاقيات تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدة دول عربية، لتشمل المملكة العربية السعودية وحتى سوريا.. ومن شأن ذلك أن يعزز الهدف طويل الأمد، المتمثل في إدارة التوترات في المنطقة من خلال مجموعة علاقات بتوجيه أمريكي، تتيح للولايات المتحدة نقل مواردها العسكرية إلى أجزاء أخرى من العالم.. ومع ذلك، وجدت الإدارة أن سياساتها تنقلب رأسًا على عقب باستمرار بسبب الإجراءات الإسرائيلية.
في مارس الماضي، انتهكت إسرائيل وقف إطلاق النار في غزة بوساطة واشنطن، ثم جرّت إدارة ترامب إلى ما يُسمى بعمليات إنسانية تجاوزت إطار الأمم المتحدة الراسخ.. وبحلول أواخر الربيع، دفعت المجاعة المتفاقمة المزيد من السكان الفلسطينيين في غزة نحو الحدود المصرية، مما أدى إلى توتر في اتفاقيات السلام الإسرائيلية طويلة الأمد مع مصر والأردن.. ثم في يونيو، قوّضت إسرائيل المفاوضات الأمريكية مع طهران، ليس فقط بقصف إيران، بل أيضًا بإقناع إدارة ترامب بالانضمام إليها عبر استهداف المنشآت النووية الإيرانية الرئيسية بقنابل خارقة للتحصينات.
في سوريا، صعّدت إسرائيل ضغطها العسكري على حكومة أحمد الشرع الجديدة، حتى في الوقت الذي كانت واشنطن تمدّها فيه بمساعدات اقتصادية ودبلوماسية حيوية.. وفي سبتمبر الماضي، هاجمت إسرائيل قطر، الحليف الحيوي للولايات المتحدة، التي تستضيف المقرّ الرئيسي للقيادة المركزية الأمريكية، قاعدة العيديد الجوية، والتي لعبت دورًا محوريًا في المفاوضات بين إسرائيل وحماس، وفي العديد من النزاعات الأخرى.. كان هذا الإجراء المتهور، الذي فاجأ الإدارة الأمريكية، أحد المحفزات الرئيسية لجهود ترامب الحثيثة لإنهاء الحرب في غزة.
الآن، مع الاتفاق الذي تقوده الولايات المتحدة بين إسرائيل وحماس، قد يبدو أن هذا النمط قد تم كسره.. ومن خلال تقديم مطالب قوية لإسرائيل وكذلك حماس، تمكن ترامب من جلب الجانبين بسرعة إلى طاولة المفاوضات والاتفاق على المرحلة الأولية من الخطة.. وعلى الرغم من تفضيل الحكومة الإسرائيلية الواضح لمواصلة الحرب، لم يكن أمام رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، خيار سوى التوقيع، بعد أن أوضح ترامب أنه قد سئم، وبالتالي بدأ محادثة (قوية) مع رئيس الوزراء الإسرائيلي.. ولكن حتى هذا الاتفاق، قد يستسلم قريبًا لأهداف إسرائيل المتباينة.. ولتهدئة جناحه الأيمن وضمان بقائه السياسي، قد يميل نتنياهو إلى استئناف الحرب على حماس، بمجرد إطلاق سراح الرهائن وعرقلة المساعدات الإنسانية ذات المغزى مرة أخرى.. وقد يهاجم إيران مرة أخرى لصرف الانتباه عما يعتبره إنهاء المهمة في غزة.
إن تفضيل الحكومة الإسرائيلية استخدام القوة العسكرية لإرباك الخصوم، قد يُقوّض أهداف الولايات المتحدة، كما شهدت جهود إدارة ترامب السابقة في المنطقة.. هذا المسار الصارخ، حيث إسرائيل عامل فوضى والولايات المتحدة تتبعها على مضض، ينطوي على مخاطر جمة.. إذا قرر نتنياهو نقض اتفاق التاسع من أكتوبر مع حماس بعد تحقيق أهدافه الأولية، أو إذا انهارت مفاوضات المرحلة الثانية منه، فقد تجرّ إسرائيل الولايات المتحدة مجددًا إلى حرب لا تريدها واشنطن.. ليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك.. فكما أظهرت الأشهر الأولى من توليها السلطة، وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية، فإن إدارة ترامب قادرة على رسم مسارها الخاص، بل وفي بعض الأحيان، باستخدام النفوذ الكبير الذي يتمتع به البيت الأبيض.. ويُظهر الاتفاق الحالي، أن هذا النوع من الضغط يمكن أن يحقق نتائج إيجابية أولية على الأقل.. ولكن، لكي تنجح هذه الجهود على المدى الطويل، ستحتاج الولايات المتحدة إلى إدراك مدى اختلاف مصالحها طويلة المدى عن مصالح إسرائيل، ومدى تقويض سياستها في الشرق الأوسط من قبل أقرب حلفائها في المنطقة.. ولكسر هذه الديناميكية حقًا، ستحتاج الولايات المتحدة إلى ممارسة ضغط مستمر على إسرائيل، للالتزام بمسار يعزز الاستقرار الإقليمي بدلًا من تقويضه.. وإلا، فقد يتحول هذا الاتفاق الأخير إلى مبادرة سلام فاشلة أخرى بقيادة الولايات المتحدة.
إن فكرة اختلاف أهداف إسرائيل والولايات المتحدة ضمن نموذج استراتيجي مشترك، ليست جديدة ولا مثيرة للجدل، ولكن خلال العامين الماضيين، انكشفت هذه الفكرة بشكل غير مسبوق.. لعقود، ارتكزت الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط على ركيزتين أساسيتين، هما دعم إسرائيل والحفاظ على تدفق النفط.. إلى جانب هذه الأهداف، حددت الإدارات المتعاقبة سلسلة من الأهداف المترابطة: منع الأعداء من امتلاك أسلحة الدمار الشامل، والحفاظ على وجود عسكري أمريكي كافٍ لدرء التهديدات الأخرى للمصالح الأمريكية، ودعم مكافحة إرهاب فعّالة.. ومع ذلك، وبشكل عام، منذ حروب السنوات الأولى لحقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، فضّلت واشنطن شرق أوسط مستقرًا نسبيًا، يستوعب فيه حلفاء الولايات المتحدة بعضهم بعضًا، حتى لو لم يحافظوا على علاقات رسمية.
بدورها، تمحورت المصالح الاستراتيجية لإسرائيل حول أمنها القومي وتحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة.. اعتبرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة حروب إسرائيل دفاعية، وزودتها بأسلحة متطورة ودعم عسكري، مع تبنّيها فكرة قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.. افترض الكثيرون في واشنطن أن اتفاقيات السلام، من اتفاقيات كامب ديفيد عام ١٩٧٨ إلى عملية أوسلو في التسعينيات، كانت تُوجّه إسرائيل نحو التحالف العام مع الولايات المتحدة.. لكن طوال هذه السنوات، فشلت واشنطن في مواجهة التوسع الإسرائيلي المستمر للمستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة بجدية، مما حال تدريجيًا دون إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.. أخفت (عملية السلام) تباعدًا متزايدًا بين الإدارتين الإسرائيلية والأمريكية.. لقد تم قلب سياسات إدارة ترامب رأسًا على عقب باستمرار بسبب الإجراءات الإسرائيلية.
في الواقع، مع تزايد نفوذ طليعة اليمين الإسرائيلي في إسرائيل، بدأ تعريف الدولة لمصالحها يبدو مختلفًا تمامًا عما هو مُحدد في الخطاب الأمريكي الرسمي.. اختفت أحزاب يسار الوسط الداعمة لحل الدولتين تقريبًا، وأصبح الأمن القومي تدريجيًا مُعادلًا بضم الضفة الغربية على الأقل، وهي خطوة من شأنها أن تستبعد قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.. عندما شكّل نتنياهو حكومةً مع أحزاب اليمين المتطرف عام ٢٠٢٢، تكثفت جهود الاستيطان، وأصبح الإشراف الوزاري على الاحتلال الآن بقيادة بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير، وهما وزيران متطرفان يُنبذان أي فكرة عن حكم فلسطيني، أو حتى وجود فلسطيني طويل الأمد في أي جزء من أراضي فلسطين.
مع ذلك، وحتى سبتمبر 2023، ظنّت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، جو بايدن، أنها على نفس نهج إسرائيل، معتقدةً أن اتفاقًا إسرائيليًا ـ سعوديًا قد يُمهّد الطريق لعصر من الاستقرار الذي طال انتظاره، في غياب تسوية عادلة للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. لكن بعد السابع من أكتوبر، رأت حكومة نتنياهو فرصة ذهبية لدفن قضية الدولة الفلسطينية.. ومنذ عام 2024، سعت أيضًا إلى توسيع الوجود العسكري الإسرائيلي باستمرار، في إيران ولبنان وسوريا واليمن، وحتى قطر.. ورغم أن هذه المغامرة غالبًا ما تعارضت مع أهداف السياسة الأمريكية المعلنة، إلا أن إسرائيل لم تواجه أي مقاومة حقيقية من إدارة بايدن أو ترامب حتى الآن.
●●●
كشفت الأحداث التي أعقبت السابع من أكتوبر، عن تباين في السياسات بين إسرائيل والولايات المتحدة كان قيد التكوين لسنوات.. فبعد هجوم حماس ورد إسرائيل العنيف، أرادت إدارة بايدن إنهاء الحرب بسرعة، حتى تتمكن المملكة العربية السعودية وإسرائيل من المضي قدمًا في تطبيع العلاقات؛ حتى أنها اقترحت أن مثل هذه الخطوة يمكن أن تجذب الدعم الإقليمي.. وعلى الرغم من تصعيد إسرائيل للحرب في غزة، واصلت إدارة الرئيس جو بايدن الضغط من أجل التوصل إلى اتفاق سعودي ـ إسرائيلي قبل نهاية ولايته في يناير 2025.. ولكن من حيث الرأي العام في الشرق الأوسط وحول العالم، كان ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أكثر دقة في قراءة المشهد.. فمع تصاعد جرائم الحرب الإسرائيلية، أدرك أنه لم يكن الوقت مناسبًا (لصنع السلام) مع إسرائيل.
لكن فكرة التسوية لم تجد مشتريًا لدى نتنياهو، الذي كان بحاجة إلى استمرار الحرب حتى يتمكن من استرضاء شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف، وتأخير أي حساب قضائي بشأن تهم الفساد التي يواجهها.. في الواقع، بدا أن اتفاقيات إبراهام نفسها ذات قيمة متضائلة بالنسبة لنتنياهو، حيث استعرضت إسرائيل قوتها العسكرية في جميع أنحاء المنطقة في السنة الأخيرة للإدارة، وأنقذتها مرارًا وتكرارًا الولايات المتحدة وبعض الدول العربية (التي ساعدت في حمايتها من الهجمات الصاروخية الإيرانية).. في غضون ذلك، وبصرف النظر عن فرض عقوبات على عدد قليل من المستوطنين العنيفين بشكل خاص، فشلت إدارة بايدن في فرض تكاليف جسيمة على الحكومة الإسرائيلية للسماح، وحتى تشجيع حملة موسعة من عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.. في هذا الفراغ السياسي، استولت إسرائيل على المزيد من أراضي الضفة الغربية عام 2024، مقارنة بالسنوات العشرين السابقة مجتمعة.
على الرغم من خطواتها الافتتاحية الجريئة، فقد أثبتت إدارة ترامب الثانية، خلال معظم الأشهر الثمانية الأولى من توليها السلطة، عدم فعاليتها في تعزيز الأهداف الأمريكية المتمثلة في السلام والاستقرار على المدى الطويل.. وعلى الرغم من أن ترامب حقق وقف إطلاق النار في غزة في اليوم الأول، إلا أنه تراجع عندما انتهكت إسرائيل ذلك بعد ستة أسابيع، ثم سلم اليمين الإسرائيلي المتطرف هدية، من خلال طرح فكرة تحويل المنطقة إلى (ريفييرا على البحر الأبيض المتوسط)، بعد ترحيل السكان الفلسطينيين على ما يُفترض.. وعندما صعدت إسرائيل حملتها في غزة وفرضت حظرُا تامًا على المساعدات للقطاع، لم تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا لمنع انتشار المجاعة هناك. وبدلًا من ذلك، عملت المصالح التجارية الأمريكية والجيش الإسرائيلي معًا لتشكيل (مؤسسة غزة الإنسانية) المثيرة للجدل، وإغلاق مئات من نقاط توزيع المساعدات في جميع أنحاء قطاع غزة.. وبحلول أغسطس، قُتل ما أكثر من ألف ومائتي شخص يبحثون عن الطعام، في محيط مواقع مؤسسة غزة الإنسانية، وفقًا للأمم المتحدة.
كان أكبر إنجاز حققته إسرائيل، هو إظهارها للعالم أن الولايات المتحدة ستُذعن، ليس فقط لهجومها المستمر على غزة، بل أيضًا لحربها الإقليمية المتوسعة، مهما ابتعدت هذه الإجراءات عن المصالح الأمريكية طويلة الأمد.. لنأخذ جمهورية إيران الإسلامية مثالًا.. في الربيع، وبينما كان ترامب منخرطًا في محادثات حول مصير البرنامج النووي الإيراني، أشار إلى رغبته في التوصل إلى اتفاق.. علاوة على ذلك، كانت نسبة كبيرة من القاعدة السياسية للرئيس الأمريكي، بمن فيهم المحلل اليميني المؤثر تاكر كارلسون، تعارض حربًا جديدة مع طهران.. ومع ذلك، وبشن حملة عسكرية إسرائيلية ضد إيران، أقنع نتنياهو ترامب بالتدخل العسكري الأمريكي في عمليات هجومية ضد طهران.. في يونيو، أطلقت الولايات المتحدة قنابل خارقة للتحصينات في فتحات تهوية منشآت التخصيب النووي الإيرانية في فوردو ونطنز.. ورغم أن المدى الكامل للضرر لا يزال موضع خلاف، إلا أن هذه الهجمات أظهرت مدى قدرة إسرائيل على استفزاز الولايات المتحدة، لشن عمليات عسكرية كبرى تخدم مصالحها تحديدًا.
يتزايد أيضًا تضارب الأهداف الأمريكية والإسرائيلية في لبنان وسوريا.. تُصرّح إدارة ترامب بأنها تريد تحقيق الاستقرار في لبنان وإحكام قبضتها عليه، خصوصًا بعد أن ضعف حزب الله هناك، بشكل ملحوظ.. والجدير بالذكر، أن الولايات المتحدة دعمت انتخاب رئيس لبناني ورئيس وزراء جديدين في يناير الماضي، وعززت قدرة الجيش اللبناني على الحلول محل حزب الله في جنوب لبنان، وشاركت في لجنة برئاسة الولايات المتحدة شُكّلت في نوفمبر 2024 لمراقبة وقف إطلاق النار المُتفاوض عليه مع إسرائيل هناك.. وفي المقابل، واصلت الحكومة الإسرائيلية عملياتها العسكرية في لبنان، مما أعاق مساعي البلاد لإعادة الاستقرار.. ولا تزال القوات الإسرائيلية تحتل عدة نقاط في الجنوب، منتهكة بذلك الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة؛ وتشن المقاتلات الإسرائيلية بانتظام غارات على أهداف يُشتبه في أنها تابعة لحزب الله في جميع أنحاء البلاد، مما أسفر عن مقتل مدنيين؛ كما تجاهلت إسرائيل إلى حد كبير لجنة المراقبة، التي هي عضو فيها.
على الجانب الآخر، ساعدت حرب إسرائيل في لبنان والهجمات على إيران، خريف 2024، في تعجيل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، على يد جماعة إسلاموية متمردة ذات جذور في الجماعات الإرهابية، داعش والقاعدة.. وبعد اجتماع غير متوقع مع أحمد الشرع، أعلن ترامب أن الولايات المتحدة سترفع العقوبات التي عاقبت بها سوريا لفترة طويلة، ظنًا منه أن ذلك يمنحها فرصة حقيقية للانتعاش الاقتصادي.. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن بناء سوريا جديدة آمنة ومستقرة يمثل أولوية تهدف إلى تجنب انهيار الدولة، وإعادة ظهور جماعات مثل داعش، وعدم الاستقرار الإقليمي الأوسع الذي يمكن أن تستغله إيران وخصوم آخرون!!.
ومع ذلك، حتى بعد تعهدها بدعم قوي للحكومة الناشئة في دمشق، لم تعرقل إدارة ترامب التدخلات العسكرية الإسرائيلية المستمرة في سوريا.. فمنذ انهيار نظام الأسد، دمرت إسرائيل معظم القدرات العسكرية للبلاد من خلال مئات الغارات الجوية.. كما استولت على أراضٍ سورية تقع خارج مرتفعات الجولان التي احتلتها منذ عام 1967، وطالبت بـ (نزع سلاح) جنوب سوريا، بزعم حماية الأقلية الدرزية في سوريا.. وقد قوضت هذه التحركات التعافي الهش للبلاد وزادت من الاحتكاك مع تركيا، حليفة الولايات المتحدة وعضو حلف شمال الأطلسي، وقد يكون هذا هو الهدف المنشود.. وقد عملت إدارة ترامب جاهدةً على جمع الحكومة السورية والفصائل الدرزية للتفاوض على وقف إطلاق النار بعد التصعيد الأخير في الجنوب، لكنها لم تفعل الكثير لعكس المكاسب العسكرية الإسرائيلية: فقد أبقت هذه التطورات سوريا منقسمة داخليًا وضعيفة، وهو هدف أبلغته إسرائيل لواشنطن.
ثم هناك مسألة غزة نفسها.. يُقدّم الاتفاق بين حماس وإسرائيل هدنة من العنف طال انتظارها، ونأمل أن تُخفّف من الجوع.. ستتمكن عائلات الرهائن أخيرًا من رؤية ذويهم أو دفن موتاهم.. ومع استئناف إيصال المساعدات على نطاق واسع، قد يتمكن سكان غزة من العودة من شفا المجاعة.. لكن تفاصيل الجانب الإسرائيلي من الصفقة غامضة بما يكفي للسماح لنتنياهو بتخريب الخطوات التالية.. على سبيل المثال، قد تواصل إسرائيل عرقلة المساعدات والطواقم الطبية والعاملين في المجال الإنساني، وتشنّ هجمات قاتلة متقطعة من خلال الجيش الإسرائيلي، أو العصابات التي تدعمها، مثل جماعة أبو شباب، وتفشل في الانسحاب، مُواصلةً احتلالًا شبه عسكري لغزة.. لا يزال الكثير من الغموض يكتنف (قوة استقرار) دولية تدعو إليها الخطة.. التحدي الأكبر، هو قضية الدولة الفلسطينية التي لم تُعالَج بعد، والتي رفضتها حكومة نتنياهو علنًا.. ومن غير المؤكد، ما إذا كان الفلسطينيون سوف يعتبرون الهيئة التكنوقراطية غير السياسية التي تتصورها الخطة شكلًا شرعيًا للحكم الفلسطيني في غزة، لأنهم لم يكونوا طرفًا في المفاوضات.
وكما فعل أسلافه، تولى ترامب منصبه قائلًا، إنه يريد تقليص الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط.. ومرة تلو الأخرى، تجد الولايات المتحدة نفسها متورطة، عسكريًا ودبلوماسيًا، بسبب توسع العمليات الهجومية الإسرائيلية في المنطقة.. ربما تكون هذه المرة مختلفة، لكن حتى الآن، يميل ترامب إلى دعم نجاحات نتنياهو التكتيكية، حتى عندما تتعارض مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية طويلة المدى، أو حتى عندما تُعيق الجهود السياسية الأمريكية الجارية.. إن اعتماد إسرائيل المتزايد على قوة السلاح ـ رفض الحلول التفاوضية للصراعات لصالح إبقاء جميع الأعداء والأعداء المحتملين في حالة عدم توازن من خلال القوة العسكرية ـ يحمل مخاطر هائلة على واشنطن.. لقد نجحت إسرائيل بالفعل في جر الولايات المتحدة إلى القتال مرة واحدة، وقد تحاول فعل ذلك مرة أخرى، سواء في إيران أو اليمن أو حتى غزة، حيث أن أي تحرك لدفع السكان الفلسطينيين إلى سيناء من شأنه أن يُشعل صراعًا مع مصر.
●●●
مع أن هذه المخاوف قد تبدو افتراضية، إلا أن الهجوم الإسرائيلي على قطر الشهر الماضي، أظهر مدى الثقة التي اكتسبتها إسرائيل.. باستهدافها مفاوضي حماس في العاصمة القطرية الدوحة، سعت إسرائيل إلى تقويض حتى وهم السعي إلى إنهاء دبلوماسي للحرب في غزة.. ورغم فشل الهجوم، نجحت إسرائيل، مرة أخرى، في إظهار قدرتها على وضع الشروط.. وهذا ما جعل دول الخليج تتساءل، عما إذا كانت هي الأخرى ستنجر إلى حروب طائشة، إذا ما أقامت شراكات مع إسرائيل كما تسعى الولايات المتحدة.. إن اعتماد إسرائيل المتزايد على قوة السلاح يحمل مخاطر هائلة بالنسبة لواشنطن.
بعد عامين من سفك الدماء غير المسبوق، ينظر معظم العالم إلى إسرائيل كدولة مارقة تخرق الأعراف الراسخة دون عقاب، بتواطؤ أمريكي.. وقد أخبرنا عدد من القادة العسكريين الأمريكيين رفيعي المستوى، أنه إلى أن تُجبر واشنطن إسرائيل على الانخراط بجدية في بناء مستقبل فلسطيني قابل للاستمرار، فإن النهج الإسرائيلي المتمثل في السعي للهيمنة العسكرية، سيعني حروبًا لا نهاية لها ومزيدًا من عدم الاستقرار الإقليمي.. إذا كان النظام العالمي، بقيادة الولايات المتحدة، أشبه بلعبة جيوسياسية، فمن المرجح أن تكون إسرائيل هي من يسحب القطعة الأخيرة.
وبالنظر إلى الديناميكيات الداخلية المثيرة للجدل، المحيطة بالعلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، سيتطلب الأمر شجاعة سياسية من أي إدارة أمريكية، للضغط على إسرائيل لكبح جماح عسكرتها المتوسعة والسعي إلى سلام دائم، أولًا، من خلال إصلاح شراكاتها مع الدول العربية.. ولكن منذ وقت ليس ببعيد، كان المرء ليقول، إن الأمر يتطلب جرأة من إسرائيل للتحرك ضد مصالح راعيتها العظمى، وليس العكس.. هدد الرئيس دوايت أيزنهاور، والرئيس جيرالد فورد، بإعادة تقييم العلاقة مع تل أبيب، بسبب التعنت الإسرائيلي.. أرجأ الرئيس رونالد ريجان والرئيس جورج بوش الأب شحنات الأسلحة وضمانات القروض لإسرائيل، للتعبير عن استيائهما من بعض العمليات العسكرية الإسرائيلية والتوسع الاستيطاني.. إن استخدام النفوذ لفرض المصالح الأمريكية ليس نهجًا جديدًا.. ولا ينبغي أن يكون مثيرًا للجدل.. في وقت تواجه فيه قوة الولايات المتحدة تحديات استثنائية حول العالم، سيكون من الغريب جدًا أن تتنازل الولايات المتحدة عن أجندتها الأمنية الأوسع لأهواء عميل مدجج بالسلاح.
لقد اتخذ ترامب الخطوة الأولى في عكس مسار هذا التوجه، ويتمتع بحماية سياسية كبيرة، ربما فريدة من نوعها، لاتخاذ مثل هذه الخطوات.. لكن الأمر يتطلب ضغطًا مستمرًا وشجاعةً للوصول إلى (السلام القوي والدائم) الذي يقول الرئيس إنه يريده.. بالنسبة لعائلات الرهائن الإسرائيليين وعشرات الآلاف من الفلسطينيين، الذين فقدوا أرواحهم وأفراد عائلاتهم ومنازلهم إلى الأبد، من المحزن أن الولايات المتحدة امتنعت عن استخدام قوتها لإنهاء الحرب لفترة طويلة.. في ظل التهديدات الأمنية العالمية العديدة حول العالم، لا يمكن للولايات المتحدة أن تتحمل الفشل مرة أخرى!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
0 تعليق