فى يوم وليلة تحولنا إلى فقهاء فى علوم السياسة والحرب.. انتقلنا من دكة المشاهدين إلى مقاعد المحللين فى الاستديوهات.. وفى النهاية صدقنا أن الحرب انتهت.. وأن ما جرى كان مسرحية متفقًا عليها لأغراض لا علم لنا بها.
عن ما جرى فى ثلاثة عشر يومًا أحدثكم.. عن صواريخ سقطت فوق رءوس الصهاينة لأول مرة منذ سنوات بعيدة.. عن تجاوز لحظى وعفوى عما زرعوه من سنوات فى أدمغتنا عن المد الشيعى وصراعات السُنة.. لأول مرة منذ سنوات يعرف الصهاينة معنى الرحيل قسرًا.. عبر المراكب أو المطارات.. لأول مرة يهجرون الوسائد الناعمة ويهربون كالجرذان إلى خنادق وملاجئ الصرف الصحى.. لأول مرة تنقل الشاشات فزعهم، فيما تعودنا فزع أهل فلسطين لسنوات حتى تعايشنا معه.
كيف يظن البعض أن كل هذا مسلسل من أعمال محمد سامى ومتفق عليه.. لقد فقدت إيران فى الأيام القليلة الماضية عددًا كبيرًا من قادتها وقادة جيوشها.. فقدت بنية نووية مهولة تتجاوز تكلفتها عشرات المليارات من الدولارات.. والأهم زمنًا إضافيًا تحتاجه من جديد للعودة إلى هذا السباق.. نعم كان اللعب على المكشوف.. ومتفقًا على قواعده يجوز.. لأن ما بعده هو الانتحار بعينه ولا أحد يريد الانتحار.. لا إيران ولا ترامب ولا الصهاينة.. كل منهم كان يريد اكتساب مساحات أوسع من الأراضى قبل الجلوس إلى طاولة مفاوضات منتظرة.. ليس على البرنامج النووى فقط.. ولكن على الشرق الأوسط نفسه.
لم تستسلم إيران.. وكسبت حضورًا كبيرًا لأنها أصبحت الكيان الوحيد بعد مصر الذى حارب الصهاينة فعلًا.. وأوجعهم.. كسب نتنياهو وترامب تعطيل مشروع إيران النووى.. واغتيال عدد كبير من العلماء والباحثين.. وخسر العرب الذين انكشفت عوراتهم فيما تستخدم أراضيهم فى حرب ليست لهم دون حول لهم ولا قوة.
وكسبت مصر.. عودة الوعى إلى شوارعها.. كسبت حضورها الحكيم وقدرتها على استشراف ما يجرى فى الخفاء.. العرب دونها لا حدود لهم.. والمسلمون دونها ضعفاء جرحى.. كسبت مصر أن عرف الجميع أنها المكان الوحيد الآمن الذى يسرعون للاحتماء فى بيوته وشوارعه لحظة الخطر.
لقد سجل المرافقون تدفقات مهولة لهاربين من جحيم الحرب إلى فنادق طابا.. مثلما سجلوا توافد آلاف العرب إلى شقق وفنادق القاهرة ولشهور طويلة مقبلة.. أرض وسماء القاهرة كانت وستظل الملاذ الأخير.
جيش مصر.. وساستها.. الذين أدركوا المخططات مبكرًا.. يدركون أن ما جرى فى إثيوبيا كان كمينًا.. وقد اعترف ترامب عمدًا أو دون قصد بأن تمويلهم سد النهضة كان غباء أمريكيًا.. لكنه لم يعترف بأن القاهرة تدرك أن هناك ما هو أبعد.. وأنها أوقفت المخطط فى بدايته منذ خمسة عشر سنة.. ولا تزال عقبة فى طريقه رغم تغير السيناريوهات.
لقد تجاوزت مصر أزمتها الاقتصادية ببراعة.. وتحمل شعبها ما لم يكن يعرف لماذا يتحمله..لكنه وبثقته فى جيشه وقيادته أحبط ما خططوا له.. تعجيز مصر اقتصاديًا كان الهدف حتى يسهل لهم ابتلاع العالم العربى من النهر إلى البحر فهل أدرك العرب الآن إلى أين يذهبون؟.. أم أنهم على غيهم لا يؤمنون سوى بقدرات الأمريكان على حمايتهم وحماية عروشهم.
أتوقع مثل كثيرين غيرى أن أول ما سيطلبه ترامب من العرب فى الأيام المقبلة هو تعمير تل أبيب.. وإصلاح ما دمرته صواريخ إيران.. وسيرضخون للأسف.
تهربوا من إعمار غزة.. غزة التى لم ينظر لها العالم.. ولم يشعر بجروح أطفالها.. حرب غزة لا تزال مستمرة فلماذا لم يطلب أحدهم إيقاف الحرب.
على كل حال الحرب لم تنتهِ.. ربما انتهت جولة هى أقرب إلى بروفة جنرال.. لكن الحرب الأكبر لا تزال مستمرة ولا يعرف أحدنا إلى أين تذهب بنا الجولة المقبلة منها.. وعلينا أن نظل مفتوحى العقل والعيون.. فالخطر لم يكن يومًا بعيدًا عنّا.