عقب الضربات الأمريكية المكثفة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية في فوردو، ونطنز، وأصفهان، سارعت طهران إلى احتواء الموقف داخليًا وخارجيًا، عبر الترويج لرواية رسمية مفادها أن الأضرار لم تكن جسيمة، وأن المواد النووية الحساسة جرى نقلها مسبقًا إلى مواقع آمنة.
هذه الرواية — التي يتبناها الإعلام الإيراني والمسؤولون الرسميون — تأمل قطاعات واسعة، سواء في الداخل الإيراني أو بين المتعاطفين مع طهران دوليًا، أن تكون حقيقية وأقرب إلى الواقع، لا مجرد محاولة لامتصاص الصدمة أو حجب الحقيقة.
لكن، وسط هذا المشهد الضبابي، يبرز سؤال محوري:
هل يخدم هذا المسار فعلًا مصالح طهران؟ أم أنه جزء من فخ أمريكي جرى تصميمه بعناية؟
من يراقب عن كثب تطورات الموقف الأمريكي، يدرك أن واشنطن لا تتحرك بعجلة أو انفعال. بل على العكس، يبدو أنها تعتمد “صبرًا استراتيجيًا” مدروسًا، يتيح لها جمع المزيد من الأدلة، وبناء سيناريوهات دقيقة ومتكاملة.
فماذا لو كانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية تملك بالفعل معلومات موثوقة عن عمليات نقل اليورانيوم المخصّب، أو عن إنشاء منشآت نووية سرّية جديدة داخل إيران؟
وماذا لو كان هذا الهدوء الأمريكي الظاهري مجرد تمهيد للحظة محسوبة، تُنفَّذ خلالها ضربة نوعية وعلنية ضد المنشآت النووية، في مشهد موجَّه للرأي العام الدولي؟
في حال تنفيذ ضربة عسكرية مركَّزة ومدروسة، قد تظهر — عن قصد أو من دون قصد — مؤشرات وأدلة على وجود أنشطة نووية غير مصرّح بها، أو يتم دفع إيران نحو اعتراف غير مباشر بوجود تلك الأنشطة.
عندها ستحصل واشنطن على ورقة سياسية وقانونية قوية، تخوّلها المطالبة بتفويض أممي للتدخل تحت شعار “منع إيران من امتلاك السلاح النووي”، في سيناريو مألوف للمجتمع الدولي.
ليس هذا السيناريو جديدًا. ففي عام 2003، روّجت الولايات المتحدة لسردية امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وهي الذريعة التي انتهت بتدخل عسكري واسع النطاق.
أما اليوم، فالنسخة الأمريكية من هذا السيناريو تبدو أكثر تقدمًا ودهاءً؛ مدعومة بمعلومات استخباراتية أقوى، وبدعم دولي أوسع، وبآليات قانونية محكمة تحظى بشرعية أممية، في ظل بيئة إعلامية دولية مهيّأة تمامًا لتبنّي سردية “الخطر النووي الإيراني” على الأمن الإقليمي والدولي.
إذا كانت الرواية الإيرانية الحالية تهدف إلى حماية البرنامج النووي من الاستهداف، فعلى صانع القرار في طهران أن يدرك أن أي تصعيد متهور أو تحرّك غير محسوب قد يُفسَّر كدليل إضافي يدين إيران، ويُستخدم ضدها لاحقًا في المحافل الدولية.
الحكمة في هذه المرحلة تكمن في قراءة النوايا الأمريكية بعمق، وتجنّب الوقوع في فخ التصعيد، حيث يمكن لواشنطن — بفضل أدواتها السياسية والإعلامية — دفع إيران إلى موقع الطرف المعتدي أو المراوغ أمام المجتمع الدولي.
إضافة إلى ذلك، يحتاج الخطاب الإعلامي والدبلوماسي الإيراني إلى قدر عالٍ من الانضباط والدقة، لا سيما مع تصاعد التصريحات الغربية بأن “الوقت ينفد” لمنع طهران من بلوغ العتبة النووية.
رغم أن المشهد الحالي يبدو ظاهريًا تحت السيطرة، فإن أي خطأ صغير في قراءة المعطيات أو اتخاذ القرارات قد يؤدي إلى تداعيات كارثية، خاصة في ملف شديد الحساسية كملف السلاح النووي.
لذلك، على القيادة الإيرانية أن تُدير هذا الملف ببالغ الحذر، مع إدراك أن الرهانات اليوم أكبر بكثير من مجرد روايات إعلامية محلية أو تصريحات رسمية. فالنوايا الأمريكية — وإن بدت هادئة في هذه المرحلة — قد تُخفي مشروعًا لإعادة إنتاج سيناريو العراق، لكن بأدوات أكثر تطورًا، وبكلفة سياسية وعسكرية أعظم على مستقبل إيران والمنطقة بأسرها.
ويبقى السؤال الأهم: هل نشهد بالفعل بداية تحضير دولي لإعادة إنتاج تدخل عسكري… تحت لافتة منع “الخطر النووي الإيراني”؟