لا شيء يحدث صدفة في الشرق الأوسط منذ اتفاقية سايكس بيكو. ما بدا مفاجئا، في اللحظة الأولى، كان مخططا له منذ زمن بعيد. هكذا كانت "عملية الأسد الصاعد"، الهجوم الإسرائيلي الخاطف على إيران فجر الجمعة، الذي بعث برسائل خشنة إلى دول المنطقة بأن زمن إعادة هندسة الإقليم - كما تتوهم - تل أبيب قد بدأ.
لم يكن الهجوم العسكري المباغت إلا نتاجا لتخطيط وتربص صهيوني امتد لثمانية أشهر كاملة، وتحديدا منذ إعلان فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية نوفمبر الماضي. راهن نتنياهو على موافقة الجمهوريين لتوجيه ضربة للبرنامج النووي الإيراني على عكس الديمقراطيين الذين كانوا يرغبون في إبرام اتفاق جديد على غرار (5+1). كان المعيار الوحيد للموافقة الأمريكية على الضربة بكل ما تنطوي عليه من مخاطر هو قبول إيران بتفكيك برنامجها النووي وفقا للنموذج الليبي أو التعامل معها عسكريا وفقا للنموذج العراقي.
منح ترامب إيران مهلة 60 يوما، لكن أغلب المراقبين اعتبروها مجرد تهديد أو ورقة ضغط يلعب بها الرئيس الأمريكي لإجبار طهران على إبداء المزيد من المرونة في التفاوض. كانت إيران تدرك أن تفكيك برنامجها النووي يعني بداية النهاية للجمهورية التي تأسست في 1979.
استدرجت واشنطن الإيرانيين إلى مفاوضات عبثية، وفي جولات مكررة الأجندة، من مسقط إلى فيينا إلى جنيف، كان الإسرائيليون في الكواليس يفسدون أي فرصة لتقريب وجهات النظر ويستعدون بالتوازي على المستويين الاستخباراتي والعسكري لشن الهجوم الذي يعتبره نتنياهو طوق النجاة الأخير لحكومته.
مع بداية اليوم الـ61 من المهلة التي أعطاها دونالد ترامب لإيران في أبريل الماضي، كانت الطائرات الإسرائيلية قد عبرت الأجواء، وشنت هجومها المنسق بعناية مع واشنطن استنادا لأساس استخباراتي فائق الدقة.
كتب ترامب، تعليقا على الهجوم الإسرائيلي على منصة "تروث سوشيال"، "اليوم هو الحادي والستين.. الضربة لم تكن مفاجئة إلا لمن أراد أن يتفاجأ".
تداخلت الحسابات السياسية مع الرهانات العسكرية، ووجد نتنياهو الفرصة التي انتظرها طويلا. كان مضطرا لأن يصنع ما يُبقيه على رأس الحكومة الإسرائيلية، وأن يعيد إنتاج صورة "الرجل القوي" التي اهتزت كثيرا أحداث طوفان الأقصى وما تلاه.
منذ عام 2012، لوّح نتنياهو مرارا بضرب البرنامج النووي الإيراني، لكن لم يكن ليجرؤ على التنفيذ بدون الضوء الأخضر الأمريكي.
المتابع لنمط صناعة السياسة الإسرائيلية، يعرف أن الكذب، حين يخدم الأمن يصبح فضيلة قومية. لقد تعمدت حكومة نتنياهو تصدير صورة مشوشة عن أولوياتها. بدا المشهد الداخلي مشغولا بأزمة غزة وتجنيد الحريديم، وأزمة الائتلاف الحاكم التي قد تطيح بالكنيست نفسه.
اجتماع "الأمن القومي" في 12 يونيو المخصص لإقرار الهجوم على إيران، تم ترويجه إعلاميا باعتباره مخصصا لمناقشة مفاوضات الرهائن في غزة. حتى الوزراء لم يُخبَروا بالحقيقة إلا عند دخولهم القاعة، ليجدوا أنفسهم أمام القرار الأخطر منذ عقود.
في الأيام السابقة للهجوم، بدا كل شيء طبيعيًا. مكتب نتنياهو تحدث عن عطلة عائلية، وحفل زفاف لابنه. وتم الترويج لإغلاق المجال الجوي فوق تل أبيب بطلب من سارة نتنياهو لتأمين الاحتفالات حتى لا يبدو أنه استعداد لأي شيء آخر. كانت هذه رسائل المضللة موجهة بعناية إلى طهران: لا حرب في الأفق.
هذا الأسلوب في الخداع والتضليل يشبه إلى حد كبير أسلوب الرئيس السادات حين منح ضباط الجيش إجازات وهمية لأداء العمرة قبيل أيام من اندلاع حرب أكتوبر.
لم تكن واشنطن بعيدة عن المشهد. بل إن الخديعة الكبرى، على ما يبدو، كانت أمريكية الصنع. الإعلام الأمريكي أوحى لطهران أن ترامب لا يوافق على ضربة إسرائيلية، وأن واشنطن متمسكة بالحل الدبلوماسي. توالت الاتصالات من مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف لدعوة القادة الإيرانيين لجولة مفاوضات الأحد في مسقط بددت الشكوك حول اعتماد الإدارة الأمريكية للضربة.
المكالمة بين ترامب ونتنياهو يوم 9 يونيو كانت نقطة التحول، حين جرى الترتيب النهائي.
البيان العسكري الإسرائيلي وصف الضربة بأنها "استباقية"، وأن الوضع وصل إلى "نقطة اللاعودة". أرادوا إيصال رسالة مزدوجة: أن إيران لم تعد فقط تهديدا نوويا، بل وجوديا، وأن الرد الإسرائيلي لن ينتظر اكتمال القنبلة، بل سيمنعها مهما كان الثمن.
الضربة - في جزء منها – كانت رهانا على استغلال لحظة الانكشاف الإيراني بعد تراجع جاهزية حزب الله، وانهيار النظام السوري، وتردي حالة الدفاعات الإيرانية التي لم تُرمم بعد ضربة أكتوبر.
رغم استغلال إسرائيل لتآكل المحور الإيراني إلا أن مثل هذه الحروب لا يمكن حسمها بضربة واحدة. المواجهة الإسرائيلية الإيرانية من الحروب الوجودية لكلاهما وهي من نوعية الصراعات التي تبقى مفتوحة على كافة الاحتمالات، وستعيد تشكيل التحالفات ليس في الإقليم فقط، بل في العالم كله
المواجهة بين إسرائيل وإيران لن تبقى محصورة في حدود الجغرافيا، ولا في إطار "الضربة والرد" التقليدي، بل باتت تُعاد صياغتها ضمن مشهد عالمي أوسع من أي وقت مضى، تتداخل فيه الحسابات الإقليمية مع خرائط النفوذ الدولي المتشظية.
من بين أبرز تجليات هذا التداخل، يبرز موقف الهند وباكستان؛ الأولى تقترب أكثر من تل أبيب وتقدم دعما استخباراتيا وتقنيا غير مباشر في معركتها ضد طهران، بينما باكستان، تخرج من موقع الحياد التاريخي لتمنح إيران دعما لوجيستيا ومخابراتيا بحسب تصريحات وزير الدفاع الباكستاني.
اللافت أن الصراع بين الهند وباكستان في كشمير، وهو أحد أقدم وأخطر بؤر التوتر في العالم، وتخشى إسلام آباد من أن تستخدم الضربة كمبرر لإعادة تشكيل موازين القوى في جنوب آسيا، تمامًا كما تخشى طهران من أن يتحوّل الصراع العربي-الإسرائيلي إلى واجهة لتصفية الحسابات الكبرى.
الصراع الإيراني-الإسرائيلي يبدو كمن يضغط على أعصاب التوتر في ساحات مشتعلة بالفعل.
في أوكرانيا مثلا، تترقب موسكو عن كثب تداعيات الهجوم، لأن مزيدا من الاصطفاف الأمريكي-الإسرائيلي قد يُترجم لاحقا إلى ضغط أكبر على الجبهة الشرقية لروسيا، وربما يكون مبررا لتوسيع نطاق الدعم الروسي لإيران في المقابل.
في تايوان، ترى بكين في انشغال واشنطن بمواجهة طهران وإعادة تموضعها العسكري في الشرق الأوسط فرصة سانحة لتوسيع هامش الحركة في بحر الصين الجنوبي، وقد تغامر بخطوات أكثر جرأة إذا ما تزايد الانشطار داخل البيت الأبيض بشأن أولويات المرحلة، وتداخلت واشنطن لحسم المعركة والسيطرة في الشرق الأوسط.
في النيجر والساحل الإفريقي، حيث الوجود الإيراني القوي، يبدو أننا على أعتاب مواجهة جديدة مع فرنسا التي تعهدت بدعم إسرائيل ضد إيران. وفي أمريكا اللاتينية تقود فنزويلا – خصم أمريكا وحلفائها - تحالفات جنوبية جديدة تربط "طهران-كاراكاس-موسكو-بكين" في تكتل مضاد للهيمنة الغربية.
خلال زيارتي لفنزويلا الشهر الماضي شاهدت صورا على الجدران في الشوارع لقائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني الذي اغتالته الولايات المتحدة في ولاية ترامب الأولى، وأعلام إيران مرفوعة على مباني العاصمة كاراكاس وفي ميادينها الرئيسية، في تحدٍ واضح لواشنطن وتل أبيب.
بهذا المعنى، يصبح التصعيد بين إسرائيل وإيران، ليس مجرد اشتباك إقليمي، بل بؤرة تفجير محتملة لاستقطاب دولي يعيد رسم ملامح ما بعد الحرب الباردة. تبلور المحاور لم يعد خيارا مستبعدا، بل واقعا يتشكل تحت نيران المعركة، والأيام القادمة ستحمل إلينا الكثير من المفاجئات.