في ظل أجواء إقليمية مضطربة وتنامٍ للضغوط الموسمية على قطاع الطاقة، أعلنت الحكومة استعدادها الكامل لتأمين إمدادات الكهرباء والوقود خلال فصل الصيف، في خطوة وصفها خبراء الاقتصاد بأنها "استباقية واستراتيجية"، تعكس إدراكا عميقا لتعقيدات المرحلة، خصوصًا في ظل تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران، والانعكاسات المحتملة لذلك على أسواق الطاقة العالمية.
التحركات الحكومية تأتي بالتوازي مع جهود مستمرة لرفع كفاءة البنية التحتية وتوسيع قدرات منظومة الطاقة الوطنية، في محاولة للحد من أي تأثير سلبي للتقلبات الخارجية على السوق المحلي، وضمان استمرارية الخدمات الحيوية للمواطنين والصناعة.
حماية السوق المحلي من تقلبات الطاقة العالمية
أشاد الدكتور وليد جاب الله، الخبير الاقتصادي وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، بالاستعدادات التي تبنتها الدولة لتأمين احتياجات الطاقة، مؤكدًا أن هذه الخطوة تعكس وعيًا حكوميًا بأهمية استباق الأزمات بدلًا من انتظار تداعياتها.
وأوضح جاب الله في تصريحات خاصة، أن ارتفاع أسعار الطاقة عالميا – نتيجة اضطرابات التوريد ومخاطر الصراع في الشرق الأوسط يشكل ضغطا كبيرا على الدول المستوردة، ومنها مصر، وهو ما يستدعي إدارة رشيدة للموارد، وزيادة الاعتماد على أدوات مثل التخزين الاستراتيجي والتنسيق المؤسسي.
وأشار إلى أن ما يحدث حاليًا ليس مفاجئا، بل يعد امتدادًا لمنهج بدأته الدولة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حينما بدأت في تعزيز احتياطاتها من السلع الأساسية، بما فيها الطاقة، لتفادي تداعيات سلاسل التوريد المتقلبة عالميًا.
وأضاف أن الوضع الإقليمي الحالي وعلى وجه الخصوص التوتر بين إسرائيل وإيران – يعيد التذكير بأن أمن الطاقة لم يعد قضية اقتصادية فقط، بل أمنًا قوميًّا بكل المقاييس، وأن قدرة الدولة على الاستجابة السريعة للتغيرات الخارجية تمثل عنصر قوة مهم في الحفاظ على الاستقرار الداخلي.
وفي السياق ذاته، أوضح جاب الله أن الحكومة اتخذت عددا من الخطوات الذكية لمواجهة الارتفاع المتوقع في الأحمال الكهربائية خلال الصيف، منها تأمين الوقود لمحطات التوليد، ورفع كفاءة وحدات إعادة تغييز الغاز المستورد، وهو ما يعزز من مرونة المنظومة الطاقية في مواجهة أي انقطاع أو نقص في الإمدادات.
وأكد أن التنسيق الوثيق بين وزارتي الكهرباء والبترول يعكس رؤية استراتيجية واضحة، ويؤكد أن هناك وعيًا بأهمية تكامل الجهود لتفادي أي اضطراب في الشبكة القومية، مشددًا على أن "الجاهزية الطاقية" هي من أبرز مؤشرات قوة الاقتصاد في ظل ما يسمى بـ"اقتصاد الحرب".
كما نوه جاب الله إلى أن الإجراءات الحكومية الأخيرة تهدف كذلك إلى الحد من الضغوط التضخمية، والحفاظ على أسعار مقبولة للطاقة، خاصة في ظل ارتفاع تكلفة الاستيراد، مما يُسهم في استقرار السوق ويحمي القوة الشرائية للمواطنين.
واختتم الدكتور وليد جاب الله بالقول إن الجهود الحكومية الحالية تؤسس لمرحلة جديدة من "المرونة الاقتصادية"، حيث باتت الدولة أكثر قدرة على امتصاص الصدمات الخارجية، والتكيف مع المتغيرات الإقليمية، بفضل التخطيط المسبق والتكامل بين مؤسسات الدولة.
تأمين الطاقة خطوة أساسية
أكد الدكتور عبد المنعم السيد، الخبير الاقتصادي ورئيس مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، أن استعداد الحكومة المصرية لتأمين إمدادات الطاقة خلال فصل الصيف يعكس إدراكًا استراتيجيًا لأهمية أمن الطاقة كرافد رئيسي لاستقرار الاقتصاد الوطني، خصوصًا في ظل الظروف الإقليمية المتقلبة والتوترات العسكرية التي تشهدها المنطقة.
وأشار السيد في تصريحات خاص لـ "الدستور" إلى أن ارتفاع أسعار النفط والغاز عالميًا والتوترات الأخيرة بين إسرائيل وإيران تضع ضغوطًا كبيرة على السوق المحلية، وهذا يجعل تأمين الوقود لمحطات الكهرباء والمصانع ضرورة لا غنى عنها لضمان استمرار النشاط الاقتصادي دون انقطاعات تؤثر على الإنتاج والصادرات.
ومع ذلك، أضاف الدكتور عبد المنعم أن هذه الخطوة وحدها لا تكفي لضمان استقرار الاقتصاد المصري، بل يجب أن تُكمل بسياسات شاملة تدعم القطاعات الاقتصادية المتنوعة، وتعمل على تخفيف تأثير ارتفاع تكلفة الطاقة على القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية.
وأوضح أن التأثيرات السلبية لتقلبات أسعار الطاقة قد تؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج وارتفاع أسعار السلع، ما ينعكس بدوره على التضخم ويقلل القدرة الشرائية للمواطنين. لذلك، يرى ضرورة تعزيز الدعم الموجه للفئات الأكثر تأثرًا، وكذلك توفير حوافز تشجع على كفاءة استخدام الطاقة واعتماد مصادر متجددة.
وشدد السيد على أهمية تطوير البنية التحتية للطاقة وتحسين نظم الإدارة والحوكمة في القطاع، مما يعزز من قدرة الدولة على مواجهة الأزمات الطارئة واستيعاب أي تحديات مستقبلية.
وأكد أن التعاون بين الجهات الحكومية والمجتمع المدني والقطاع الخاص يمثل نقطة قوة أساسية في مواجهة التحديات الاقتصادية والطاقية، مشيرًا إلى أن الاستقرار الاقتصادي لا يتحقق فقط بتأمين الطاقة، بل يتطلب رؤية متكاملة تعمل على تعزيز النمو المستدام وتحقيق تنمية شاملة.
توسيع الدعم للصناعة لمواجهة التكاليف المتزايدة
أكد الدكتور محرم هلال، رئيس الاتحاد المصري لجمعيات المستثمرين، أن إعلان الحكومة المصرية عن جاهزيتها لتأمين إمدادات الطاقة خلال فصل الصيف خطوة مهمة وضرورية، خاصة في ظل الاضطرابات الإقليمية وارتفاع الطلب الموسمي، إلا أنه شدد على ضرورة أن يصاحب ذلك تحرك عملي لدعم القطاع الصناعي في مواجهة الزيادات المحتملة في أسعار الطاقة.
وقال هلال في تصريحات خاصة لـ “الدستور” ، إن الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الحديد، الأسمنت، والسيراميك تعاني بالفعل من ارتفاع التكلفة الإنتاجية، ومع تصاعد أسعار النفط والغاز عالميًا، قد تتعرض هذه الصناعات لمزيد من الضغوط، مما يؤثر على تنافسيتها في الأسواق المحلية والخارجية.
وأضاف أن المستثمرين يدركون أهمية الاستقرار الطاقي كشرط أساسي للإنتاج والنمو، ولكنهم في الوقت نفسه بحاجة إلى آليات حماية واضحة في أوقات الأزمات، مثل تقديم حوافز مؤقتة أو تخفيضات موجهة على أسعار الطاقة للصناعات الأكثر تضررًا.
وأشار هلال إلى أن القطاع الصناعي يواجه تحديات متراكمة، أبرزها ارتفاع تكلفة المواد الخام وتقلب أسعار الصرف، ولذلك فإن الحفاظ على استقرار الطاقة وحده لا يكفي، بل يجب دمج ذلك ضمن سياسة اقتصادية شاملة تحمي الاستثمار وتُعزز من قدرة المصانع على الاستمرار والتوسع.
ودعا إلى إشراك مجتمع المستثمرين في صياغة السياسات الطارئة الخاصة بالطاقة، من خلال حوار مباشر ومنتظم مع الوزارات المعنية، لضمان التوازن بين مصلحة الدولة في إدارة الموارد ومصلحة المستثمر في الحفاظ على الجدوى الاقتصادية لمشاريعه.
وأكد أن المستثمر المصري شريك للدولة، ويقدر جهود الحكومة في مواجهة التحديات، لكنه في المقابل ينتظر سياسات مرنة تدعم الاستمرار في الإنتاج وتُجنّب السوق أي موجات ركود.
استثمار طويل الأمد في أمن الطاقة
من جانبه، أشاد الدكتور محمد سعد الدين، رئيس لجنة الطاقة باتحاد الصناعات المصرية، بالإجراءات التي تتخذها وزارة البترول لتوسيع قدرة مصر على التعامل مع أي أزمة في واردات الغاز الطبيعي، مؤكدًا أن تشغيل وحدة التغييز الثالثة وربطها بالشبكة القومية للغاز يمثل "استثمارًا طويل المدى في أمن الطاقة".
وأوضح سعد الدين في تصريحات خاصة لـ "الدستور" أن التحركات الأخيرة، ومن بينها زيارة وزير البترول المهندس كريم بدوي لموقع الوحدة بميناء العين السخنة، تشير إلى وجود إرادة قوية لدى الدولة لتسريع تنفيذ الحلول العملية التي تعزز من أمن الطاقة، وتمنح الحكومة مرونة كبيرة في تلبية الاحتياجات المتزايدة لمحطات الكهرباء والقطاعات الصناعية.
وقال: وجود ثلاث وحدات تغييز موزعة على موانئ استراتيجية في مصر يمنح البلاد قدرة كبيرة على مواجهة أي انقطاعات مفاجئة، ويعزز من استقرار الإمدادات بشكل غير مسبوق.
وتابع: الخطط التي نراها اليوم ليست مجرد رد فعل، بل جزء من استراتيجية مدروسة وضعت بعناية لمواجهة سيناريوهات الطوارئ، من خلال تعزيز البنية التحتية وتكامل الجهود بين وزارتي البترول والكهرباء.
وأشار سعد الدين إلى أن اللجوء إلى استخدام المازوت والسولار في تشغيل بعض محطات الكهرباء – إلى جانب الغاز – يعكس تنوعًا مطلوبًا في مصادر الوقود، يضمن استمرار التشغيل دون المساس بالقدرة الإنتاجية أو التأثير على المواطنين.
وثمن الأداء الفني للكوادر العاملة في قطاع الطاقة، والتي تمكنت من تنفيذ مهامها بكفاءة عالية رغم التحديات، مشيرا إلى أن هذا الأداء يبعث برسائل طمأنة حقيقية للمستثمرين حول استقرار بيئة الأعمال في مصر.
وأضاف: ما نراه من سرعة في التنفيذ وقدرة على التعامل مع أزمات معقدة هو انعكاس لإرادة سياسية حقيقية، تدعم القطاع وتمنحه الأدوات اللازمة للعمل دون تعطيل، حتى في أكثر الظروف إرباكا.
استقرار الطاقة ضمان للاستثمار والنمو
في النهاية اتفق الخبراء على أن استقرار منظومة الطاقة ليس فقط ضرورة معيشية للمواطن، بل عامل حاسم في جذب الاستثمار، ودفع عجلة النمو الاقتصادي، خاصة في وقت تتنافس فيه دول المنطقة على رؤوس الأموال الأجنبية.
وأشارا إلى أن وجود شبكة طاقة مستقرة ومدعومة ببنية تحتية قوية يعزز من قدرة الصناعة المصرية على العمل بكفاءة، ويرفع من تنافسيتها في الأسواق العالمية، مؤكدين أن أي اضطراب في الطاقة يعني تراجعًا مباشرًا في الإنتاج والصادرات.