حين تكمم الصحافة... تتكلم الفوضى

حين تكمم الصحافة... تتكلم الفوضى
حين
      تكمم
      الصحافة...
      تتكلم
      الفوضى

ليست حرية الصحافة ترفًا نخبويًا ولا مظهرًا ديمقراطيًا شكليًا، بل هي أحد الشروط الحضارية الأولى لقيام الوعي، وضمانة المجتمع ضد الاستبداد والفساد والتضليل، ففي ظل صحافة حرة، يُحاسَب المسؤول، ويُسمَع صوت الناس، وتٌصبح المعلومة أداة بناء لا أداة تضليل، وتُظهر الدراسات القيمة والأبحاث العلمية أن الدول التي تنعم بصحافة حرة تتمتع بمستويات أعلى من الشفافية، ونموًا مستقرًا في مؤشرات التعليم والصحة والديمقراطية، أما المجتمعات التي تُكمم فيها الصحافة، فسرعان ما تظهر فيها أمراض فكرية موازية مثل الخوف، التواكل، الإشاعة، والتطرف.

لم تعد حرية الصحافة مجرد ترف من قبيل الماكياج ديمقراطي، بل أصبحت ضرورة ملحّة في زمن تتزايد فيه محاولات الفاسدين للتحايل على ثغرات القانون لممارسة فسادهم بعيدًا عن أعين الرقابة، وبينما تتعطل يد العدالة أحيانًا، تبقى الصحافة الحرة هي السلطة الرابعة التي تٌضيء للمجتمع زوايا الظلام وتكشف خيوط الفساد المتشابكة.

نحن اليوم، في كل زاوية من هذا الوطن، نصطدم يوميًا بصور متعددة من الفساد المستشري نتيجة لموروثات سابقة ومزمنة من الخلل الإداري والأخلاقي، لا سيما داخل مؤسسات وهيئات مجتمعية يُشار إليها بالبنان، وتتمتع باحترام وقداسة زائفة وبثقة الناس وسمعة مصطنعة، بينما تخفي في طياتها ممارسات تضر بالصالح العام وتستنزف مقدرات الدولة وتقف بسلبية شديدة في مواجهة فقدان الهوية والانتماء والتماسك المجتمعي، وللأسف، فإن تراجع حرية الصحافة وتهديد الأقلام الحرة في مواجهاتها مع تلك المؤسسات  قد فتح الباب واسعًا أمام تمدد هذا الفساد، بعدما أصبحت الصحافة تُحاصر لا بالمنع المباشر، بل بتعقيد الحسابات وإشعال المخاوف في نفوس الصحفيين قبل أن يقتربوا من مناطق النفوذ الفاسدة، وأن بعض هذه المؤسسات الفاسدة لم تعد فقط تمارس فسادها في الظل، بل باتت عبئًا حقيقيًا على الدولة، تُعيق خطوات الإصلاح، وتُضلل الرأي العام، مستفيدة من ثغرات قانونية تُستغل بمهارة من أرباب الفساد أو غطاء مجتمعي لا لمواجهة الصحافة فحسب، بل لقطع يدها تمامًا، وهنا يجب الانتباه إلى حاجتنا إلى وقفة صريحة لتقوية التشريعات، وإعادة الاعتبار للسلطة الرابعة كحائط صد أول ضد الانحراف والتلاعب بمقدرات الوطن.

ومن هنا، فإن تعرض الصحفيين للحبس لا يُعد فقط انتهاكًا لحرية التعبير، بل هو أيضًا هدية مجانية للمفسدين، وفرصة لهم للعمل في الخفاء دون خوف من فضحهم، لذلكفإن ضمان حرية الصحفي وأمانه هو صمام أمان للمجتمع بأسره، وركيزة أساسية في معركة الشفافية والإصلاح.

إن حماية الصحافة الحرة لا تعني التستر على الخطأ، بل تعني التمكين من أداء الدور الأهم في بناء الدولة الحديثة من خلال الرقابة المجتمعية وكشف الحقائق، فالدول التي تقدمت لم تفعل ذلك إلا حين صانت أقلام صحفييها، ووضعت الحقيقة فوق السلطة، لا العكس، أما حين يتحول الصحفي إلى متهم لمجرد قيامه بدوره، فإننا نصنع مناخًا خانقًا تتوارى فيه الحقيقة، ويتغول فيه الفساد بثياب قانونية، بل إن أخطر ما يهدد أمن أي مجتمع ليس الكلمة الحرة، بل السكوت عن الخطأ وتغييب الوعي، من هنا يصبح واجب الدولة أن تضمن حرية الصحافة، وتُحاسب من أفسد لا من فضحه، فالحبس ليس ردًّا على القلم، بل هو كسرٌ لإرادة الإصلاح في مهدها.

من المهم أن نفهم أيضا أن وأد الصحافة، يعني ولادة الفوضى، وحين تُقيد الصحافة، لا يصمت المجتمع، بل يبحث عن بدائل أخرى أكثر قدرة على التخفي والضرر وهنا تدخل وسائل التواصل الاجتماعي، لا باعتبارها بديلًا مهنيًا، بل كمساحة مفتوحة بلا مرجعية أو ضوابط، وفي غياب الصحفي المحترف، يُصبح "الترند" هو المصدر، و"المؤثر" هو الموجّه، وتختلط الآراء بالحقائق.

إن من المفارقات المؤلمة أن إضعاف الصحافة التقليدية قد يكون من الأسباب المباشرة في استشراء الاستخدام الخاطئ لوسائل التواصل الاجتماعي، وتحولها إلى بيئة خصبة للتزييف والتأجيج والتضليل.

إن للتاريخ شواهده حين صنعت الصحافة النهضة الحقيقية، وفي مصر كانت "الأهرام" و"اللواء" و"المقطم"  و"المؤيد" مدارس فكرية، لا مجرد نشرات، وفي أوروبا، كانت الصحف رافعة للوعي قبل أن تكون منصة للخبر، وكانت الكلمة آنذاك تُحترم، لأنها كانت تُحمل بأمانة. وكانت الصحافة حين تنقد، تُصلح، لا تُحرّض.

إن الضمير الصحفي لا يجب أن يُحبس، بل يُحاور، فلا يجب أن يُحبس الصحفي بسبب رأيه، حتى لو كان قاسيًا، بل يُناقَش، أو يُرد عليه، أو يُصحح إن أخطأ، فالصحفي حين يكتب ناقدًا، يدرك أن الدنيا قد "تقوم وتقعد"، ومع ذلك يكتب، لا عن تهور، بل عن شعور عميق بالمسؤولية تجاه المجتمع.

ومن المهم تفهم أن حديثي هذا ليس ترويجا أطلب فيه للصحفيين حصانة، بل ضمانة حتى لا تٌرهب الأقلام، لا نريد إعلامًا بلا ضوابط، بل قانونًا لا يُسلّط على الصحفي كالسيف، بل يُهديه كالميزان، ويضمن تنفيذ الاستحقاقات الدستورية التي تنص على أن حرية الفكر والرأي مكفولة، وأن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر،وان حرية الإبداع الفنيوالأدبي مكفولة، وألا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما ما هو متعلق بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فلا يدخل ضمن حرية الفكر، وينظم القانون مواجهته. 

إن رفض الحبس فى قضايا النشر لا يُقصد به تحصين المتهمين فى قضايا النشر (صحفيين أو مواطنين) من المحاسبة، لكنه حماية للحق فى التعبير وصونا للدستور،فالقانون به العديد منالسبل القانونية والنقابية التي تكفل حماية حقوق المواطنين والمجتمع من أي انتهاكات قد تحدث عبر النشر، دون اللجوء إلى الحبس.

إن العديد من البدائل الحضارية لعقوبة الحبسمتوفرة، مثل نشر تصحيح إلزامي في نفس المنبر، وإتاحة الرد المكافئ من الطرف المتضرر، وفرض غرامة عادلة تحفظ هيبة القانون دون سحق الكلمة، فإذا كان الخطأ لا يُعالج بخنق الصوت، فإن الخوف من العقاب قد يٌكمم الصواب قبل أن يُقال.

ومن المدهش أنه في عالم كرة القدم، وهي في النهاية مجرد لعبة رياضية، وضع الاتحاد الدولي قواعد صارمة تمنع وصول المشكلات الرياضية إلى المحاكم العادية، بهدف حماية الرياضة من الانجرار إلى منازعات قانونية طويلة ومعقدة، ولهذا أنشأ محاكم خاصة للرياضة تتبع له، لتؤكد أن الرياضة ليست ميدانًا للنزاعات القضائية، بل هي مجال لأهداف أسمى وأنبل تتجاوز الصراعات القانونية.

أما صوت الضمير الصحفي، الذي يحمل مسؤولية أسمى من مجرد اللعب، فلا يزال مٌحاصرًا تحت طائلة ثغرات قانونية عديدة، وبمواد تشريعية لم تواكب الدستور،وهذا التناقض يعكس الحاجة الملحة لمراجعة التشريعات، لضمان حرية الصحافة كركيزة أساسية في المجتمع الديمقراطي، فالصحافة قبل أن تكون سلطة، هي مسؤولية، وكل حرية لا يضبطها الضمير تتحول إلى فوضى، والمجتمع الواعي لا يحمي الصحافة فقط، بل يطالبها أيضًا بأن تكون حارسة للحقيقة، لا حليفة للهوى، ولهذا أتصور أنه يجب أن تسير حرية الصحافة على ثلاثة أعمدة، تتمثل في تشريعات تجرّم التضليل لا النقد، ونقابات مهنية قوية تُحاسب الخارجين عن المهنة، ووعي شعبي يُفرق بين الصحفي المهني والمُحرّض المتنكر.

إن الكلمة بداية الطريق... لا نهايته، ولم تنهض أمةٌ إلا حين أُكرمت الكلمة، ولم تسقط إلا حين صمتت الصحافة، أو تحولت إلى بوق بلا روح، وحرية الصحافة ليست شعارًا يُرفع في الاحتفالات، بل قيمة يومية تُمارس أو تُوأد، وإذا أردنا نهضة حقيقية، فلتكن أولى لبناتها هي إطلاق الكلمة من سجن الخوف، وتمكين العقل من أن يرى بعيون صحافةٍ لا تخشى، ولا تبتذل، ولا تُرهب.

فالكلمة إذا خُنقت… تكلمت الفوضى.

وإذا أُطلقت… أضاءت العقول، ومهّدت للنهضة، وصنعت الوطن.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق خالد الغندور: رضا سليم مطلوب فى سيراميكا كليوباترا
التالى “سوسطارة” تفوز أمام سطيف وخنشلة تزيد من متاعب “أبناء الزيبان”