اللا مكان

اللا مكان
اللا
      مكان

نعم إنها هى،

دكتورة علياء بشحمها ولحمها، مرَّت من أمامى دون أن تفطِن لى، تأكدتُ من حقيبة الكاميرا المعلقة على كتفها والتى تحملها أينما ذهبت.

كانت أستاذتى فى مادة التصوير الفنى بكلية الفنون الجميلة، علاقتى بها استمرت بعد التخرج، رؤيتها للمستقبل مغايرة كما أنه مشهودٌ لها بالدِّقة والكفاءة.

ما زالت كلماتها ترِن فى أذنى، صحيح أن النسيان نعمة من الله، لكن الأحداث الحزينة تشق علاماتها فى الروح فلا تنمحى أبدًا.

شَلَّت المفاجأة قدمى حين رأيتها تحوم حول الفيلا وتتلفت وراءها، استعدت توازنى وتعقبتها بهدوء حتى دخلت متسللة إلى معمل التصوير من الباب الخلفى حيث كان الباب الرئيسى للفيلا موصدًا بالشمع الأحمر، تابعتها من الشباك الصغير للمعمل المطل على الحديقة الخلفية، راحت تجوب المعمل وتتحسس الأدوات وكرسى التصوير وشاشة العرض بحميمية شديدة، ثم جلسَت على مكتبها فى زاوية المكان وأخرجت الكاميرا من حقيبتها تتفحصها، كتمتُ أنفاسى أراقبها، لا أُصدر أى حركة، فما حدث يجعلنى أحذر.

 

منذ أكثر من ست سنوات، بعد أن حصلْتُ على المركز الأول فى ترتيب دفعتى لمشروع التخرج، اختارتنى دكتورة علياء لأكون مسئولًا عن معمل التصوير الخاص بها والملحق بفيلتها بالعبور، أتذكر يومى الأول كمساعد لها، المعمل تصميمه الخارجى على شكل كاميرا، عدستها هى الشباك الدائرى المطل على الحديقة الخلفية، ومجهز من الداخل بأحدث الأجهزة المتخصصة، فى آخر المعمل غرفة صغيرة محاطة بفاصل خشبى سميك يجعلها مُظلمة تمامًا لتحميض الصور، وتُعتَبر أهم مكان فى المعمل وليس مسموحًا لى بالدخول إليها، أرمق وجهها وهى تشتعل حماسًا وتنتقل بين الكاميرا المثبتة على المنضدة وبين الغرفة المظلمة، تقوم بتحميض الصور التى يرسلها زوجها لولديها التوأم اللذان سافرا بدونها منذ يومين بالسيارة إلى الغردقة مع والدهما على أن تلحق بهما بالطائرة بعد انتهاء المؤتمر المزمع عقده غدًا والذى كانت ستقدم فيه ورقة بحثية مهمة اشتغلنا عليها سرًا، تربط اللحظة الآنية بالصورة عن طريق تقنية حديثة تمت تغذية جهاز الرؤية والكاميرا بها لنتمكن من استعادة مشاعر اللحظة التى تم التقاط الصورة فيها، استنادًا إلى خاصية احتفاظ العين بالصورة التى تراها لمدة ثوانٍ معدودة من الرؤية، وكانت تستعد للمؤتمر لتعرض تجربتها على الهواء مباشرة حيث الحضور من مختلف بلدان العالم ووسائل الإعلام العالمية والعربية ستتواجد بكثافة.

كان زوجها يرسل لها الصور ولقطات الفيديو على الموبايل الملحق بالكاميرا أولًا بأول بصحبة ابنيه البالغين من العمر الثالثة عشرة عامًا، كنت أقف خلفها بمسافة قصيرة أُرتب ملفات البحث وأشاهد لقطات الفيديو، حتى جاءت اللقطة الأخيرة لهما حين أصر الولدان أن يقفزا من القارب ويسبحا مع أصدقائهما، وفى لمح البصر ظهرت دراجة مائية من العدم تنطلق بسرعة هائلة فأطاحت بالولدان على مرأى ومسمع من والديهما ثم طفت الدماء على سطح المياه وطغى الصراخ على كل الأصوات. 

تسمَّرت دكتورة علياء وشاهدنا صورة الكاميرا وقد تسمَّرت فى يد زوجها للحظة ثم وقعت منه على أرض القارب، ولم نسمع أو نرى سوى أقدام تحوم حول الكاميرا حتى غاب الصوت وراحت الصورة.

ما عرِفناه بعدها من تصريحات الشهود أن الكاميرا سقطت على أرضية القارب حين ألقى زوجها بنفسه فى المياه محاولًا إنقاذ ولديه ثم اختفى عن الأنظار حتى تم العثور عليهم جميعًا غرقى، ثم ظهرت فرق الإنقاذ ينتشلون جثث الأب وولديه فى مشهد مأساوى صوره عدد من المتواجدين بالقارب ونشروه على اليوتيوب. 

مرَّ على الحادثة ستة أشهر ودكتورة علياء فى ذهولٍ تام، لم تبكِ أو تولول كما فعل أصدقاؤها الذين حضروا أيام العزاء الأولى، فقد فتحت بابها لاستقبال المعزين ثلاثة أيام فقط ثم اعتكفت فى فيلتها ولم تسمح لأحد بزيارتها سواى، وبعد أسبوعٍ واحد باشرَت العمل على أبحاثها ونظرياتها بعد أن قاطعت المؤتمر والحياة بأكملها، فلم يعد لديها هدف سوى استعادة مشاعرها مع أسرتها عن طريق إثبات فعالية بحثها واستعادة مشاعر الماضى. 

حتى جاء اليوم الذى لن أنساه أبدًا، حين علا صراخها فى المعمل تنادينى وأنا أتأهب للمغادرة بعد يوم عملٍ شاق، أسرعت إليها فوجدتها تقفز بفرح وتعانقنى وتخبرنى بأنها نجحت أخيرًا فى مسعاها ودَعتنى لرؤية التجربة. 

جلسَتْ على الكرسى المخصص لذلك ووضعَت على عينيها جهاز الرؤية وجهَّزت الأسلاك المثبتة بعِدَّة أماكن فى رأسها والموصولة بجهاز ذبذبات ذى تقنية عالية يُظهر معدلات الإحساس، وطلبت منى تشغيل شاشة عرض الصور ثم ضغطت على الزر.

فترة سكون بسيطة تلاها تحرك واضح فى مؤشرات الإحساس وابتسامة واسعة على شفتيها ثم فجأة بدأت تنتفض وانبعثت من الجهاز أصوات غير مألوفة، فتحركتُ نحوها لأنزع عنها الأسلاك فدفعتنى بيديها بقوة أسقطتنى على الأرض، ثم بدأ جسمها يتشنج، فقمتُ مُسرعًا واندفعت من خلفها أنزع الأسلاك عن رأسها، وحين أدرتُ الكرسى كانت الأسلاك عالقة فى يدى وهى كانت اختفت.

 

أين اختفت طوال الخمس سنوات الماضية؟ لقد ظلت الشرطة تبحث عنها كثيرًا ثم اتهمونى بقتلها وقضيت فترة بالحبس، ولما لم يجدوا جثتها أو أى أدلة يدينونى بها أطلقوا سراحى، ومن يومها وأنا أبحث عنها خاصةً أن الأوراق البحثية التى تثبت كلامى كانت تمسكها بيديها أثناء التجربة وبالطبع اختفت معها، لذا لم تصدقنى الشرطة فى بادئ الأمر.

المدهش أنها وزوجها لم يكن لهما أقرباء فظلت الفيلا موصدة لا يقترب منها أحد، فاستأجرتُ مكانًا فى بناية تطل على الفيلا من مسافة قريبة نوعًا ما، أمرُّ على الفيلا كل يومٍ فى طريق عودتى، وأُثبِّت مِنظارى المُكبِّر من غرفتى على المدخل الخلفى للفيلا، فكان لدى يقين بأنها ستعود يومًا ما.

 

ما زلت أتابعها من شباك المعمل المستدير وهى تتفحص كاميرتها وتُسجل ملاحظاتها على مهل، لا أدرى كيف أتصرف، الفضول يقتلنى، استعدتُ شِتات نفسى وقررتُ مواجهتها لمعرفة ما حدث، كان معى مفتاح المعمل، وبمجرد أن أدَرتُ المفتاح بالباب ودخلْت، حتى هبَّت واقفة تُحملِق فى وقد بدا على وجهها الفزع، ثم فى عُجالة لملمت أوراقها والتقطت لى صورة، فخطوت إليها صائحًا: 

دكتورة علياء انتظرى من فضلك، لا تذهبى، أستحق منكِ تفسيرًا.

لم تلتفِت لى، هروَلَت إلى الغرفة المُظلِمة فدخلتُ وراءها، فغشىَ المكان نورٌ ساطع، وما هى إلا لحظة واحدة وعاد الظلام يسود، تلفتُّ حولى فلم أجدها، كانت اختفت.

من المجموعة القصصية

«الشارع الخلفى»

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق قائمة مسلسلات رمضان على شاشة المتحدة.. متنوعة بين 30 و15 حلقة
التالى الجلفة.. تسمم شخصين بالغاز