استمر بشار الأسد بعد اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١ ثلاثة عشر عامًا رافضًا ترك السلطة.. وعليه انقسم الجيش السورى، نصفه مع بشار ونصفه ضده، الجيش الذى كان يسمى فى الأساس ودون مبرر «جيش بشار» وليس الجيش السورى، تبخر فى لمح البصر.. وبعد الانقسام الذى حدث بعد اندلاع الثورة كل نصف حارب الآخر، لتستولى على سوريا التنظيمات الإرهابية بسهولة بل واتخذتها مقرًا، وخرجت من رحمها تنظيمات أخرى، ضمت ضمن صفوفها إرهابيين وقتلة ومرتزقة من كل دول العالم.
أتذكر ذات مرة كنت فى باريس وحكى لى مواطن تونسى يعيش هناك أنه كان لديه صديق فرنسى يعمل سائق تاكسى، وبعد فترة قال له إنه اعتنق الإسلام.. وبعدها تغير تغيرًا كليًا ثم جاء يومًا ليودعه، لأنه سوف يسافر إلى سوريا، بل ودعاه للسفر معه لمحاربة من لا يؤمنون بالرب.
كل هذا كان فى عهد بشار الأسد، طبيب العيون الذى ورث الحكم عن أبيه حافظ الأسد عام ٢٠٠٠، وكان أول حالة توريث واضحة فى العالم العربى.. ولأن خبرته السياسية كانت صفرًا، أدى ذلك لمواجهته خصومه بعنف شديد.
وظل يحكم سوريا أربع وعشرين سنة، وهرب منها بين ليلة وضحاها.. اختفى فجأة، كما فعل جيشه، تاركًا شعبه وبلده لجحيم قادم لا محالة.
يقول السكان فى حلب إنهم عندما قاموا فى الصباح للذهاب إلى أعمالهم وممارسة حياتهم الاعتيادية، فوجئوا بأن قوات الجيش والشرطة اختفت تمامًا من الشوارع، وحتى أقسام الشرطة كانت فارغة، لا يوجد عسكرى واحد فى أى مكان وكلهم تركوا أماكنهم فارغة وكأن المدينة تم تسليمها ورفع رايتها البيضاء، ونفس الشىء تكرر فى دمشق.
مستقبل سوريا أصبح ضبابيًا.. يكفى أن حكامها الآن إرهابيون مطلوبون دوليًا، يقول السوريون فى حلب ودمشق إن معظمهم سلفية جهادية وإخوان، يضمون جنسيات كثيرة من بينها مصريون.. وهم جماعات متطرفة لا تعترف بالجيوش النظامية، بل قوامها دائمًا المرتزقة، والسذج الذين يعتقدون أنهم يحسنون صُنعًا.. وهم فى الحقيقة لا يعرفون من الدين شيئًا، فقد أقدم هؤلاء على حرق قبر حافظ الأسد بما لا يخالف شريعتهم المدمرة بعد توليهم الحكم بأيام قليلة.. وهل العبث بالقبور وعدم احترام حرمة الموتى يوجد فى الدين الأكثر تسامحًا فى الحياة؟ الدين الإسلامى فى حقيقته ينبذ العنف والقتل حتى مع المختلفين معه، وبوضوح شديد يقول القرآن الكريم «لكم دينكم ولى دين».. والرسول الكريم الذى قال لأعدائه عندما تملك أمرهم «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
ولكن الجولانى ورفاقه يفعلون عكس ما جاء به الدين الإسلامى، خاصة أن هذه الجماعات الدموية لا تعترف بالأرض أو بالأوطان وليست لديها عقيدة أو مبدأ، والدليل أنها لم تصدر بيان إدانة أو حتى تتحدث عن احتلال إسرائيل أرضًا جديدة فى سوريا، بالتزامن مع دخولها العاصمة القديمة والعتيدة دمشق، وهى المنطقة العازلة، وجبل الشيخ، وقصفها جميع الأسلحة الاستراتيجية والمطارات والذخائر السورية والبنية التحتية.. وتجريد سوريا من كل قوتها ودفاعاتها لتصبح عارية تمامًا ومستباحة.. لا تقوى على الدفاع عن نفسها ضد أى عدوان.. فى الوقت الذى كان زعيمهم أحمد الشرع الشهير بأبومحمد الجولانى، والذى يبدو بالنظر إلى صوره القديمة، وهو يرتدى زى المجاهد، أنه هَذّب من لحيته كثيرًا وغيّر ملابسه حتى يبدو وكأنه ثائر وليس إرهابيًا- يخطب فى جماعته وعشيرته بالمسجد الأموى.. فى حين سبقت مصر الجميع وكانت أول دولة فى العالم تصدر بيان إدانة وتنبه للخطر القادم، ثم تبعتها دول أخرى، ولكن سوريا لم يصدر عنها شىء.. وكأن ما حدث كان جزءًا من اتفاق ما، أو صفقة من تلك التى تباع بها الأوطان.
لا أعتقد أنه يوجد شخص لديه عقل وضمير لا يرى المخاطر القادمة.. لا يتوقع مسار وشكل الدولة السورية من تقسيم وتفتيت وحروب وقمع وإرهاب، ربما أكثر شراسة مما مضى.. ولا يدرك أهمية وضرورة وجود جيش قوى يحمى البلاد وشعوبها.. والأخطر فى الحقيقة هو تفجير الوطن من الداخل، بأيدى البعض من مواطنيه الذين ليست لديهم بصيرة تدرك ما يُحاك من مؤامرات لإسقاطه.. يختلف المواطنون فى كل مكان مع أنظمتهم وحكامهم.. ولكن لا ينبغى أن يختلفوا على أوطانهم.. على أرضهم وعرضهم.
العقلاء فقط يدركون ما حدث ويحدث فى سوريا بيقين لا يقبل الشك، ويعرفون أن نظام بشار الأسد لم تسقطه الثورة التى قامت منذ ثلاثة عشر عامًا، ولكن أسقطته جماعات تكفيرية، الأرض وحدودها ليست من بين همومها.. فإن همها الوحيد هو السلطة والحكم فقط، والحكم الدينى بشكل عام يفسد الدول، والإسلاميون بشكل خاص لا يدخلون دولة إلا وأفسدوها.. خلط الدين بالسياسة عندهم ليس لتطبيق شرع الله، بل لتحقيق أهداف سياسية فقط وللوصول للحكم.
صحيح أن حال سوريا وشعبها لم يكن جيدًا ولا حتى مقبولًا طوال الأعوام السابقة ومنذ ٢٠١١، حيث تشرد أهلها فى بلدان كثيرة، على رأسها مصر وتركيا، وأصبحوا لاجئين بعد أن كانوا كرامًا فى أرضهم، وتمكنت الجماعات الإرهابية، على رأسها داعش وجبهة النصرة، من مدن كثيرة وأقامت حكمها عليها فى وجود بشار، ولكن الآن الواقع مظلم والمستقبل ضبابى وغامض ولا يبشر بالخير.