ثورة على الجمود ودعوة للنهوض والتقدم على أسس وطنية وعلمية
نحتاج ونحن نستشرف المستقبل أن نراجع الماضى، وبالأخص تراثنا الفكرى والثقافي، لنتعرّف على المساهمات الحقيقية فى معالجة مشكلاتنا، فقد تعددت الاجتهادات لنهضة مصر وتحديثها، منذ وقت يحسب الآن بالقرون، وخاصةً فى مجال الثقافة والتعليم، حيث نعانى من أوضاعهما المتأرجحة، رغم تراثنا فى تناول تلك المشكلات.
تعالوا نتذكر أحداثًا مهمة كان لها تأثير كبير على البلاد.. فقد وقعت مصر معاهدة «الشرف والاستقلال» عام ١٩٣٦، وتلا ذلك التوقيع على معاهدة مونترو في أبريل عام ١٩٣٧.. وهكذا، خطت البلاد خطوة مهمة في طريق الاستقلال الوطنى وإلغاء نظام الامتيازات الأجنبية، وتولدت لدى المصريين قناعة بأن بلدهم تسير بخطى ثابتةٍ نحو بناء دولة حديثة، وانهمكوا فى رسم الخطط للنهوض بالدولة.
فى هذه الأجواء، قدم عميد الأدب العربى رؤية إصلاحية بدت «ثورية» فى نظر كثيرين لأهمبتها فى تقدم أمور حياتنا، وذلك من خلال كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذى صدر عام ١٩٣٨، وسوف نندهش عندما نعرف أن فكرة الكتاب بدأت عندما قدم العميد تقريرًا خاصًا طلبه منه مجلس الوزراء المصرى للاستفادة من خبرته، ضمن تقارير أخرى فى محاولة من أهل الحكم لرسم «خارطة طريق» دولة أصبحت مستقلة ذات سيادة ترسم خطاها نحو المستقبل، لكن التقرير أصبح كتابًا من ٥٥٠ صفحة ونشرته مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر، واعتبر مجلس الوزراء الكتاب جهدًا مشكورًا.
[هامش: مجلس وزراء مصر عام ١٩٣٨ كان يفكر فى أهمية القوة الناعمة المصرية.. وللأسف، لم يفكر أى مجلس وزراء بعد ذلك فى إدراك أهمية هذا الأمر.. منذ أكثر من ٢٠ عامًا، كتبت يوميات تدور حول سؤال: متى نسمع عن اجتماع لمجلس الوزراء يناقش فقط دور الثقافة؟.. وبالطبع حتى الآن ما زالت هذه الأمنية عصية على التحقق].
زوبعة بلا حدود
فى كتابه، رأى عميد الفكر والعقل والأدب فى عالمنا العربى طه حسين أن مصر أقرب لدول حوض البحر المتوسط منها لدول الشرق، مما أثار ضده زوبعة بلا حدود وموجة عنيفة من الانتقاد، قد لا تقلُّ عن تلك التى واجهته حين أصدر كتابه «فى الشعر الجاهلى»، وأنكر عليه البعض إغفاله العلاقات بين مصر والشرق، ونادوا بأن المصريين، وإن كانوا غير مرتبطين بدول الشرق الأقصى، فإن هناك تقاربًا ثقافيًّا لا يمكن تجاهله بينهم وبين الشرق الأدنى، ولا سيما العرب.. وإذا عدنا لصحافة تلك الفترة، فسوف نجد العديد من الطلقات العنيفة الموجهة نحو فكر طه حسين، ويكفى أن أحيل قارئنا العزيز إلى مجلة «الرسالة» (يناير ١٩٣٩) التى أفردت جل صفحاتها لهجوم غير مسبوق تصدره ساطع الحصرى ومحمد حسين هيكل، وأنكر عليه منتقدوه ما طرحه حول تأثر مصر بحضارة البحر المتوسط وأهمية تواصل الشرق والغرب أو ما نسميه اليوم الحوار بين الشرق والغرب فيما يفيد ولا يضر.
ولعل ما كتبه الدكتور جابر عصفور يقدم لنا تفسيرًا ولو بشكل غير مباشر لهذا الهجوم الكاسح، فقد كتب فى مجلة «أدب ونقد» (العدد ٧٢٣): «.. أما النص (كتاب طه حسين) فهو تصور لمستقبل الثقافة فى مصر كما يراه المؤلف الذى لا يصل إلى تصورات المستقبل إلا بعد أن يشبع الوضع القائم نقدًا جذريًّا وبعد تحليله – من حيث مثالبه - تحليلًا عميقًا.. وهنا يبدو طه حسين كما لو كان يكشف الهوة الواسعة بين أفكاره النقدية الجذرية وبين الأوضاع التى كانت عليها الثقافة والتعليم فى بلده أولًا، ويضيف إليها تطلعاته إلى مستقبل نقيض ومضيء ثانيًا، بعد أن أشبع مجتمعاته التقليدية نقدًا وصدامًا واختلافًا».. نعم كانت رؤية العميد صادمة بالنسبة لأصحاب الرؤى التقليدية، ثورية لمن انشغل بالتفكير«خارج الصندوق»، وكان مفكرنا الكبير جابر عصفور على حق حين أشار إلى أن القارئ للكتاب «يستعيد صدام طه حسين الدائم مع المجتمع التقليدي، كما يستعيد سعى طه حسين الدؤوب على أن يستبدل بالمجتمع التقليدى الذى عاش فيه مجتمعًا حديثًا، ترفرف فوقه أعلام التقدم والتحديث والاستنارة، فضلًا عن شعارات الحرية والعقلانية والعدل الاجتماعي، وكل معانى المواطنة التى تتناقض مع العادات والتقاليد البالية والأفكار الدينية القديمة الجامدة، وكل مؤسسات المجتمع التقليدى فى رفضها التغير والتجديد».
عموماُ، إذا تأملنا جيدًا كتاب عمنا وتاج راسنا طه حسين، نجد أنه مشروع لتغيير الثقافة فى علاقتها بالتعليم تغييرًا جذريًّا، مع اقتران التنمية الصناعية والاقتصادية بالتنمية التعليمية والثقافية. فالثقافة عنده ظاهرة إنسانية عامة، وليست وطنية مصرية فقط، وإن كان دورها الأساسى يتركز فى تحقيق الوحدة الوطنية وربط الوطنية بقديمها وحديثها. ورغم أن عنوان الكتاب يشير بشكل مباشر إلى الثقافة إلا أننا أمام مرجع مهم فى التربية، ومرشد رئيسى لإصلاح نظام التعليم، باعتباره قوة من قوى التحرر تصنع الرخاء والازدهار.
كتاب العصر
وبعد مرور أكثر من ستة وثمانين عامًا، نجد أن الكتاب يبدو كما لو كان مكتوبًا لنا اليوم، فأغلب المشكلات التى كان يتحدث عنها طه حسين - خصوصًا فيما يتصل بالثقافة بوجه عام والتعليم بوجه خاص - لا تزال إلى اليوم مشكلات موجودة ومستعصية على الحل. وهو أمر يؤكد أن مشروع طه حسين لا يزال مشروعًا معاصرًا، ولا يزال صالحًا للتطبيق وفق مراعاة تغيرات الزمن وما جرى فى نهر الحياة من تطورات إيجابية أو سلبية.
اعترف طه حسين بـ«مراجعة» بعض أفكاره فى الكتاب، وأقر فى حوار مع الكاتب الصحفى الراحل والمتميز محمود عوض، تضمنه كتابه «شخصيات» بأنه تمنى لو أعاد طبع الكتاب وراجع فيه بعض مقولاته.. لكنه حرص على التأكيد على تمسكه بالمنهج العام الذى سار عليه فى الكتاب.
وفى هذا الحوار، يعدد طه حسين من ضمن هذه الأخطاء أنه أخطأ خطأ بالغًا، عندما قرر إلغاء تدريس اللغات الأجنبية فى التعليم الابتدائى وهو وزير للمعارف. وبرر ذلك بقوله: «كنتُ أريد أن أقوِّى معرفة التلاميذ باللغة العربية، ووقتها تصورت أن تدريس الإنجليزية يؤثر على استيعابهم للعربية. رأى خاطئ وقرار خاطئ ما زال مستمرًا.. لا التلميذ استمر يدرس لغة أجنبية، ولا هو حتى أصبح يعرف لغته العربية».
لكن الأخطر من ذلك، ماذا قال طه حسين عندما سأله محمود عوض عام ١٩٧١ عن حال الثقافة فى مصر؟.. كانت إجابة العميد صادمة قال: «ولو عدتُ إلى تأليفه اليوم من جديد فسوف أقول: زفت.. مستقبل الثقافة.. زفت». إنه يتحدث فى مرارة عن مستقبل الثقافة التى انحدرت إلى حد ملحوظ سنة ١٩٧٢، وهى السنة الثانية من حكم الرئيس السادات الذى كان قد تحالف مع جماعات الإسلام السياسى على ضرب التيار الصاعد فى الثقافة والتعليم المصريينِ، ومن عاش تلك الفترة لعله تابع ما كان يحدث مع الطلاب اليساريين فى جامعة أسيوط تحديدًا من ضرب بالجنازير وإصابة العديد منهم بعاهات مستديمة، كما سمعنا كثيرًا عن إرهاب الطلاب الإخوان لزملائهم اليساريين فى جامعة القاهرة، وكان تخصص أسماء بعينها تمزيق مجلات الحائط اليسارية بمجرد تعليقها تحت سمع ونظر الجميع (صار هؤلاء الطلاب قيادات إخوانية فيما بعد).
فى هذه المرحلة، بدا واضحًا الانتقال بالبلاد من ثقافة وتعليم مدنيينِ عصريينِ مفتوحينِ على العالم كله إلى ثقافة وتعليم منغلقينِ، يكتسبانِ طابعًا دينيًّا ضيق الأفق وبعيد تمامًا عن وسطية الإسلام وسماحته، وذلك ضمن عملية «الإرهاب الفكرى» الهائلة التى قام بها حلفاء النظام من الإخوان وجماعات الإسلام السياسى لكى يواجه خصومه من اليساريين الذين كانوا إلى حد كبير مؤمنين بأفكار طه حسين التحررية.
أوضاع التعليم
نعود إلى طه حسبن إذ تتحدد رؤيته فى ربط التعليم بالوضع الاجتماعى والثقافى فى البلاد، بينما هو يتحدث عن المستقبل، ولعل هذا يذكرنا بجهد فكرى آخر قدمه محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، فى كتابهما المشترك تحت عنوان «فى الثقافة المصرية» عام ١٩٥٥ (بيروت – القاهرة)، تعرضا فيه لنقد التراث الثقافى الوطنى وانتقدا أيضًا جهد طه حسين نفسه، رغم أنهما حرصا على تقديره، لأن رؤاه لا يمكن تجاهلها. [وللمفارقة، فى دردشة مع أستاذنا ومفكرنا الراحل محمود أمين العالم، قال لى: مثلما راجع طه حسين بعض أفكاره فإن كتابى مع عبدالعظيم أنيس يحتاج لبعض المراجعة، خاصةً بعد بروز دور الإخوان].
فى كتابه، عالج طه حسين بعض أبعاد رؤية التراث فى الثقافة والتعليم والمحافظة عليها، فرأى ضرورة إشراف الدولة على شؤون التعليم كلها، لقدرتها على مراقبة وضع المناهج والبرامج التعليمية، حيث أن القلة التى تعلمت خضعت لألوان مختلفة من التعليم يجب تجاوزها، فالتعليم الأجنبى تحميه الامتيازات الأجنبية.
والأزهر مثلا تبدو الدولة مشرفة عليه، بينما هو مستقل استقلالًا تامًا، وهو يصيغ الطلاب صيغة خاصة مختلفة عن الصيغة التى ينتجها التعليم المدني، ولا بد أن تتابع الدولة إشرافها على تعليم اللغة الوطنية لأهميتها فى تكوين الشخصية الوطنية، وكونها وسيلة التعامل فى إطار وطن واحد، ولابد أن تلتزم المدارس الأجنبية بتدريس التاريخ الوطنى المصرى والعلوم الدينية.
ويجب عدم قصر التعليم العام على طبقة دون أخرى لضمان تحقيق العدل والمساواة، فالتعليم الصالح جزء من الدفاع الوطنى المتين أو ما نسميه اليوم الأمن القومى، ويحذر طه حسين من مخاطر جعل التعليم وسيلة وليس غاية، وهذا إفساد لقيمة التعليم، وتدفع للإعراض عن القراءة الحرة.. [زمان بالمناسبة، كان ضمن الجدول المدرسى حصة قراءة حرة وحصة مكتبة، وكنا نتسلم كراسة نجد فى أعلاها مساحة لنكتب اسم الكتاب واسم المؤلف والناشر ثم نلخص فى باقى الصفحة الكتاب الذى استعرناه من مكتبة المدرسة].
كما كان المفكر الراحل طه حسين يرى ضرورة إشراك الجامعة فى معالجة قضايا التعليم الثانوى باعتباره الطريق إلى الجامعة، ولا يجب الركون إلى الأزهر فقط لمراقبة تعليم اللغة العربية، فاللغة ليست شأنًا دينيًا فقط، ومعاهد العلم ليست مدارس فحسب ولكنها بيئة للثقافة والحضارة، والأزهر أساسًا معهد للدراسات الدينية الإسلامية، ويجب أن يستجيب لاحتياجات الشعب من دوره الثقافى وليس الدينى فقط. كما رأى طه حسين مبكرًا أنه «لا بد من العناية بالأدوات الثقافية مثل الصحافة والسينما والراديو لفائدة ذلك للكثرة التى لا تقرأ»، وهو ما نسميه اليوم، بشكلٍ أو بآخر، القوة الناعمة للبلاد.
ارتباط وثيق
ما يهمنا التأكيد عليه، وفق كتاب طه حسين، أن مستقبل الثقافة مرتبط إرتباطًا وثيقًا بالنهوض بالتعليم نهوضًا حقيقيًا، وليس رهنًا بإجراءات روتينية وقرارات مكتبية تتخذها الجهات التابعة للوزارات المعنية.. مستقبل الثقافة مرهون برؤية إبداعية تخص جميع الأطراف المختصة بالثقافة والشباب والتعليم والتنمية المحلية وغير ذلك من جهات شريطة الخروج من شرنقة التفكير الأحادى الخانق. كما أن مستقبل الثقافة مسألة عامة تخص المجتمع كله ومرهونة بمستقبل التعليم.
وإذا كنا نرى جهودًا مشكورة فى مواقع عديدة، إلا أن مستقبل الثقافة والتعليم أيضًا لا تكفيه كلمات نكتبها سريعًا، لكنه يمثل مشروعًا قوميًا للبلاد مبنيًا على قناعة بأهمية بناء البشر وفق منهج يعمل على توسيع مداركهم ويؤهلهم لاستيعاب كل المتغيرات والتطورات العلمية والتكنولوجية، بما يحقق مصلحة الوطن والمواطن على مدى عصور قادمة.
ولعل كتاب طه حسين قد فتح شهيتنا للتفكير فى تنظيم عدة ندوات تناقش مشروعًا عامًا يجعل من الثقافة ومكوناتها (بما فى ذلك التعليم ومراكز الشباب..إلخ) حالة نهوض عامة فى المجتمع برؤية منفتحة على العالم، وبنظرة إلى المستقبل من خلال نافذة بيضاء.
وليس أفضل ما نختم به مما ختم به طه حسين كتابه: «إن مصر التى انتصرت على الخطوب، وثبتت للأحداث وظفرت بحقها من أعظم قوة فى الأرض فى هدوء وأناةٍ وثقةٍ بالنفس وإيمانٍ بالحق، خليقةٌ أن تنتصر على نفسها وتظهر على ما يعترض طريقها من العقاب، وترد إلى نفسها مجدًا قديمًا عظيمًا لم تنسه ولن تنساه».